تُمثّل أغنية “La Bohème” التي أدّاها شارل أزنافور عام 1965 وثيقةً أنثروبولوجيّةً بالغة الأهمّيّة لفهم التّحوّلات الاجتماعيّة والثّقافيّة التي شهدتها باريس في منتصف القرن العشرين، ومن هنا تتجاوز هذه الأغنية كونها مجرّد عملٍ فنيٍّ حنينيٍّ؛ إذ تشكّل شهادةً على “موت” نمط حياةٍ كاملٍ وانقراض طبقةٍ اجتماعيّةٍ-ثقافيّةٍ فريدةٍ: البوهيميا الفنّيّة الباريسيّة. ومن منظور أنثروبولوجيّ موسّع، يمكن قراءة النص كسرديّةٍ عن التغيّر الحضريّ، وذاكرة المكان، وتحوّلات الهويّة الفنّيّة، والصّراع بين الحداثة والأصالة في المجتمعات الحضريّة.
وانطلاقًا من هذا الإطار، تظهر البوهيميّة كمفهومٍ اجتماعيٍّ نشأ في باريس القرن التّاسع عشر كنمط حياةٍ بديلٍ يتبنّاه الفنّانون والكتّاب والمفكّرون الذين رفضوا القيم البرجوازيّة السّائدة، بحيث تشكّل البوهيميا، أنثروبولوجيّاً، “مجتمعاً فرعيّاً” (subculture) يتميّز بطقوسٍ خاصّةٍ، وقيمٍ مشتركةٍ، ومكانٍ جغرافيٍّ محدّدٍ (خاصة حي مونمارتر Montmartre)، ونظامٍ اقتصاديٍّ هامشيٍّ يقوم على الفقر الطّوعيّ والتّضامن الجماعيّ.
وبالعودة إلى زمن كتابة الأغنية، نجد أنّه عندما كتب أزنافور أغنيته في ستينيّات القرن العشرين، كانت هذه البوهيميّة قد بدأت فعليّاً في الاختفاء نتيجةً لعدّة عوامل: التّحديث العمرانيّ لباريس، ارتفاع أسعار العقارات، تسليع الفنّ، وتحوّل مونمارتر من حيّ فنّانين فقراء إلى منطقةٍ سياحيّة، مما يجعل الأغنية إذن تؤرّخ لحظة “الانتقال الثّقافيّ” هذه.
ومن بين أهمّ الأبعاد الأنثروبولوجيّة للأغنية، يتقدّم ارتباط الهويّة بالمكان الجغرافيّ؛ إذ إنّ الرّاوي لا يتذكّر مجرّد أحداثٍ معزولةٍ، بل يستحضر “مكاناً” محدّداً بكلّ تفاصيله المادّيّة والحسّيّة، الشّوارع، المقاهي، الأزقّة، السّلالم، وهذا يتوافق مع المفهوم الأنثروبولوجيّ لـ”الذّاكرة المكانيّة” حيث تتحوّل الجغرافيا إلى مستودعٍ للذّكريات الجماعيّة.
وفي السياق نفسه، يظهر حي مونمارتر في الأغنية ليس مجرّد خلفيّةٍ، بل بوصفه “فاعلاً اجتماعيّاً” (social actor) يشارك في تشكيل هويّة ساكنيه، فقر الحيّ، برودته، وحنينيّته، كلّها عناصر تشكّل “البيئة الرّمزية” التي تنتج نمط الحياة البوهيميّ.
وعلاوةً على ذلك، تصف الأغنية طقوساً يوميّةً بسيطةً لكنّها محمّلة بالمعنى الأنثروبولوجي: الرّسم حتى الصّباح، شرب النّبيذ الرّخيص، الجوع المشترك، النّقاشات الفنّيّة، وهذه ليست مجرّد أنشطةٍ يوميّةٍ، بل “طقوسٌ تأسيسيّةٌ” (founding rituals) تخلق الانتماء والهويّة الجماعيّة، إلى الحدّ الذي يتحوّل فيه الفقر نفسه إلى طقسٍ رمزيٍّ يميّز المجموعة عن المجتمع البرجوازيّ المحيط.
وبالتالي، فإنّ البوهيميّين، من منظورٍ أنثروبولوجي، يمثّلون ما يسميه فيكتور تيرنر “الحالة الهامشيّة” (liminality) – الوجود على حافّة المجتمع، خارج البنى الاجتماعيّة التّقليديّة، غير أنّ خصوصية هذه الحالة تكمن في كون البوهيميّين اختاروا هذه الهامشيّة طوعاً كموقفٍ فلسفيٍّ وجماليٍّ لا كإقصاءٍ اجتماعيٍّ قسريٍّ.
ولذلك تعكس الأغنية هذا التوتّر المفاهيميّ؛ إذ يتذكّر الرّاوي الفقر والبرد والجوع، لكنه يصفها بحنينٍ عميقٍ، لأنّها كانت فترةً من الحرّيّة الإبداعيّة والأصالة، مما يكشف عن نظامٍ قيميٍّ مختلفٍ تماماً عن القيم المادّيّة السّائدة.
وإضافةً إلى ما سبق، تصوّر الأغنية نظاماً اجتماعيّاً قائماً على التّضامن والمشاركة بدلاً من التّنافس الرّأسماليّ، فالفنّانون يتشاركون الطّعام القليل، والمسكن الرّديء، والأحلام الكبيرة، وهذا يشكّل ما يمكن تسميته “اقتصاد الهِبَةِ” (gift economy) كبديلٍ عن اقتصاد السّوق.
وبمتابعة التّحليل، يتّضح أنّ الحنين في الأغنية ليس مجرّد عاطفةٍ شخصيّةٍ، بل هو موقفٌ أنثروبولوجيٌّ من التّحديث، إذ يحنّ الرّاوي إلى زمنٍ كان فيه الفنّ غير مسلّعٍ، والعلاقات الإنسانية غير وساطيّةٍ، والحياة أبسط رغم صعوبتها، الأمر الذي يعكس ما نسميه أنثروبولوجيّاً “نقد الحداثة من الدّاخل” – أيْ استخدام الماضي كمرآةٍ لنقد الحاضر، حيث يبدو النّجاح الماديّ الذي حقّقه الرّاوي (ضمنيّاً) فارغاً مقارنةً بالغنى الرّوحي للماضي الفقير.
ويتجلّى بعد ذلك البعد الأوسع الذي تؤرّخ له الأغنية بوصفها ظاهرةً أنثروبولوجيّةً عامّةً: كيف تقضي الحداثة الحضريّة على المجتمعات الفرعيّة الأصيلة، فالتّحديث العمرانيّ، والسّياحة، والسّوق العقاريّ، كلّها قوًى “تطهّر” المدينة من أشكال الحياة غير المنتجة اقتصاديّاً.
ومن هنا يمكن اعتبار الأغنية، عملاً يقوم بدور “الأرشيف الشّفهيّ” الذي يحفظ ذاكرة طبقةٍ اجتماعيّةٍ مهدّدة بالانقراض، إذ يتحوّل السّرد الشّخصيّ للرّاوي إلى سردٍ جماعيٍّ لكل من عاشوا تلك الفترة.
وتتجاوز الذاكرة هنا كونها مجرّد استعادةٍ للماضي؛ لتصبح فعلاً من أفعال المقاومة الثّقافية ضدّ “الذّاكرة الرّسميّة” للمدينة التي تحتفي بالتّحديث وتنسى من دفعوا ثمنه، كما تعكس الأغنية تصورين مختلفين للزّمن: الزّمن الدّوريّ للبوهيميّة (تكرار الطقوس اليوميّة، الإيقاع الموسميّ للحياة الفنّيّة) مقابل الزّمن الخطيّ للحداثة (التقدّم، التّطوّر، النّجاح)، الأمر الذي يجعل الحنين رغبةً في استعادة الزّمن الدّوري المفقود.
ورغم أنّ المصطلح لم يكن شائعاً وقتها، تصف الأغنية بوضوحٍ عمليّة “التّحسين الحضريّ” (gentrification) التي حوّلت مونمارتر من حيٍّ شعبيٍّ-فنيٍّ إلى منطقةٍ استهلاكيّةٍ سياحيّةٍ، وهو نموذجٌ تكرّر في مدن عديدة، بحيث جرى طرد الفنّانين والفقراء لصالح الطّبقة الوسطى والسّياحة.
وبهذا تتّضح، أنثروبولوجيّاً، خسارة ما يسمّيه بعض الباحثين “الأصالة الحضريّة” – أيْ الطّابع الفريد والحقيقيّ للأحياء قبل أنْ تتحوّل إلى صورٍ نمطيّةٍ استهلاكيّةٍ، فمونمارتر اليوم موجودٌ كمنطقةٍ سياحيّةٍ، لكنّه فقد روحه الأصلية.
ويتواصل هذا الخطّ التّحليليّ عبر إبراز التّوتّر الأساسيّ بين الفنّ كممارسةٍ حرّةٍ والفنّ كسلعةٍ؛ فالبوهيميّون القدامى كانوا فقراء لكنّهم أحرار إبداعيّاً، بينما قد يكون الفنّان المعاصر (وقت الأغنية) ناجحاً مادّيّاً لكنّه مقيّدٌ بمتطلبات السّوق، وهذا التّحول يمثّل تغيّراً عميقاً في وظيفة الفنّ ومكانة الفنّان في المجتمع.
وبنتيجة ذلك، تحنّ الأغنية إلى زمنٍ كان فيه الفنّانون يشكّلون “جماعةً” (community) حقيقيّةً تربطها قيمٌ وممارساتٌ مشتركةٌ، في حين أنتجت الحداثة فنّانين أكثر نجاحاً مادّيّاً لكنّهم أكثر عزلةً وفردانيّةً، وهذا يعكس التّحوّل الأوسع في المجتمعات الحديثة من البنى الجماعيّة إلى الفردانيّة.
ومن اللّافت أيضاً أنّ كلّ أداءٍ للأغنية يشكّل “طقس ذكرى” (ritual of remembrance) يعيد إحياء البوهيميّة رمزيّاً، حيث يصبح الجمهور الذي يستمع ويتفاعل جزءاً من مجتمع ذاكرةٍ جماعيّةٍ، حتى لو لم يَعِشْ تلك الفترة شخصيّاً، مما يحوّل الأغنية إلى أكثر من نصٍّ، فهي ممارسةٌ ثقافيّةٌ متكرّرةٌ تحفظ ذاكرةً جماعيّةً من الاندثار.
وبناءً عليه، يمكن القول إنّ أغنية “La Bohème” لشارل أزنافور هي أكثر من مجرّد تعبيرٍ حنينيٍّ عن الماضي؛ فهي وثيقةٌ غنيّةٌ تكشف عن التحوّلات العميقة في المجتمع الحضريّ المعاصر، ومن خلال سردها الشّخصيّ الحميم، تؤرّخ لـ”موت” طبقةٍ اجتماعيّةٍ-ثقافيّةٍ كاملةٍ ونعني بها البوهيميّة الفنّيّة الباريسيّة، وتكشف عن الثّمن الإنسانيّ والثّقافيّ للتّحديث الحضريّ.
وتتعزّز أهمّيّة هذا الاستنتاج حين نلاحظ أنّ الأغنية تعكس الصراع بين قيمٍ متناقضةٍ: الحرّية الإبداعيّة مقابل الأمن الماديّ، الجماعة مقابل الفردانيّة، الأصالة مقابل التّسليع، الزّمن الدّوريّ مقابل التّقدم الخطّيّ، مما يجعلها تذكّر بأنّ “التّطوّر” دائماً يأتي بخسائرٍ، وأنّ ما نربحه من الحداثة نفقده من الرّوابط الإنسانيّة العميقة.
وفي الختام، تحتفظ الأغنية بذاكرةٍ جماعيّةٍ لنمط حياةٍ مختلفٍ، وتعمل كنقدٍ ضمنيٍّ للقيم المادّيّة المهيمنة، وهي تذكّرنا بأنّ المدن ليست مجرّد مبانٍ وشوارع، بل هي أيضاً ذكرياتٌ، علاقاتٌ، وطرق حياةٍ يمكن أنْ تختفي مع التّغيير الحضريّ، ولذلك تبقى “La Bohème” رثاءً لعالمٍ مفقودٍ، لكنّها أيضاً تساؤلٌ مستمرّ:ٌ ماذا نفقد عندما نحدّث مدننا؟ وهل النّجاح الماديّ يعوّض فعلاً عن فقدان الجماعة والأصالة والحرّية الإبداعيّة؟ هذه الأسئلة تجعل الأغنية ذات صلةٍ دائمةٍ، لأنّ الصّراع بين الحداثة والأصالة لا يزال يحدّد تجربة الحياة الحضريّة في كلّ مكانٍ.

الدكتور سعيد عيسى