الروائي السوري الكبير نبيل سليمان
بات من المألوف في العقدين الأخيرين أن تقرأ في النقد الروائي: تسريد الموسيقى، أو البناء الموسيقي للرواية. وقد تبلغ الحذلقة النقدية الأكاديمية حد القول بالخطاب/ السّيمولوجي للموسيقى في الرواية. وما كل ذلك إلاّ حلقة من حلقات التراسل/ التفاعل بين الرواية والفنون، كعلامة كبرى من علامات الحداثة الروائية، وما بلغه تطور الرواية العربية، ولئن كان الوصال بين الرواية والموسيقى قد بدأ قبل قرن ونصف في رواية فرنسيس المراش دّر الصَّدف في غرائب الصُّدف، ثم تواتر وارتقى في رواياتٍ لتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وجبرا إبراهيم جبرا، وإدوارد الخراط، ومطاع صفدي، وحنا مينه، فقد أخذ هذا الوصال يزداد حميمية وتجريباً وتنّوعاً في رواياتٍ الأجيال التي تلت خلال نصف قرن مضى، ومن أهمها إبراهيم عبد المجيد: أداجيو، أسعد محمد علي: الضفة الثالثة، مصائر: كونشرتو الهولوكست والنكبة: ربعي المدهون، عشاق وفونوغراف وأزمنة: لطيفة الدليمي، خضراء كالبحار: هاني الراهب، معبد ينجح في بغداد: رشيد الضعيف، معجم طنجة: محمود عبد الغني، أمطار صيفية: أحمد القرمالوي… لهذا الوصال الموسيقي الروائي فلعله واسيني الأعرج، كما تؤكد أما الأكبر وفاءاً رواياته: سيدة المقام: مرائي الجمعة الحزينة – البيت الأندلسي – كريما توريوم – سوناتا أشباح القدس – رماد الشرق: الجزء الأول: خريف نيويورك – رماد الشرق: الجزء الثاني: الذئب الذي نبت في البراري – شرفات بحر الشمال – مملكة الفراشة – رمل الماية: فاجعة الليلة السابعة بعد الأف. وبدرجة أدنى يأتي الوصال الموسيقي الروائي في روايات واسيني الأعرج: أصابع لوليتا، نساء كازانوفا – ليالي إيزيس كوبيا: ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية، وأخيراً وليس آخراً: عازفة البيكاديللي. وكما فعل في روايات عديدة له، فعل في روايته الجديدة، حيث يلتقط لحظة تاريخية وإنسانية حاسمة كما تجسدت في شخصي ٍة بعينها، فيرهن لهذه الشخصية رواية وقد تكون هذه الشخصية قادمة من أعماق التاريخ ) الأمير عبد القادر الجزائري، ثربانتس، مثالً(، أو من أعماق كتاب )لوليتا، مثالً(، أو من أمس قريب )مي زيادة ( لا يزال مستمراً كما في ) عازفة البيكاديللي( . ونحن على موعد مع الشخصية الجزائرية خيرية ( في رواية قادمة: حيزية/ زفرة الغزالة الذبيحة)، كما دكر واسيني الأعرج في مقالة له مؤخراً، يتحدث فيها عن تنقيبه عن أسرار وحياة خيرية، مثلما تحدث في مقدمة رواية عازفة البيكاديللي(، التي تعنونت بهذا السؤال ) من أشعل النار في البيكاديللي؟(. 2 قد شكلت كنزاً إذا كانت الحرب اللبنانية 1975 – 1990 للروائيين في لبنان، فقد كانت كذلك لكثيٍر من غيرهم، مثل صنع هللا إبراهيم ومؤنس الرزاز والياس فركوح ليانة بدر وغادة السمان وياسين رفاعية ورشاد أبو شاور وبهاء طاهر وأحمد يوسف إلى واسيني الأعرج الذي شبك ما بين تلك الحرب والانفجار داوود… وصولاً . فمن الحرب المنتهية ظاهرا 1990 ً الهيروشيمي في مرفأ بيروت سنة 2020 عام وال تزال تضرب في الأحشاء، يأتي الحدث المركزي في رواية ) عازف البيكاديللي( وهو حرق مسرح البيكاديللي سنة 2000 ،فمنه وإليه تنشب وتؤوب أحداث الرواية وشخصياتها ودلالاتها و… موسيقاها. تبدأ الرواية بخروج الصحفية الشابة إي ّما نسيب من سجن النساء. وكانت تهمتها قذف مؤسسات الدولة، وتكوين مجموعة من الأشرار، ولعلاقتها مع أنكيدو. وإيما هي ابنة عازفة البيانو الأول في لبنان لينا، والدة إيما التي تعمل في صحيفة المحقق. وكانت الصحفية والصحيفة قد خّوضتا في معركة التحقيق فيمن حرق البيكاديللي؛ وبالتحقيق اصطبغت الرواية بالبوليسية، حيث سينجلي الغموض وينفك اللغز رويداً ومشّوقا لد إيما الذي حرق المسرح. ً، ليسفر عن أنطوني وا في هذه الرواية، من مقدمتها إلى فصلها الأول، حيث يصل تحضر السيرية لطيفةً الكاتب مع صديقه قادماً من دمشق إلى بيروت في حمأة الحرب الأهلية. وتتالمح السيرية من بعد بينما تتكشف وتتعقد وتتفكك شبكة – أم شبكات – الرواية: الصحيفة التي تسعى إلى فضح العصابة التي قادت لبنان إلى الهالك، ومن ذلك حريق البيكاديللي أنطوني الذي يحمل على من يدعوهم عصابة البيكاديللي مشبهاً مسرح لضرس “لازم حدا ينزعها بلا رحمة. لازم ينحرق لقد جمع كل حقراء العالم. بل بيروت كلها الزم تنحرق” – البيكاديللي الذي استلمته الدولة فما عاد يمكن للورثة أن يبيعوه – ماسي الذي يضع كتابا – جمعية أنصار ثقافة الحمرا والبيكاديللي ًمن الصور عن البيكاديللي – حفلة فندق فينيسيا التي تحييها عازفة البيكاديللي لينا، ابنة المعلم جوزيف عازف البيانو الفريد – الاحتفال بقيامة البيكاديللي بعد عشرين سنة من حرقه – بيروت بعد انفجار المرفأ مدينةً – التحقيق في الانفجار، والذي يعزز البوليسية قتيلة ومهزومة في الرواية.. العاشقين من شبكة/ شبكات الرواية القصص الفرعية الغزيرة: قصة سيرتا وماسي – قصة جدارية البيكاديللي للفنان أيمن بعلبكي – قصة حارس البيكاديللي السوداني، فقصة الحارس السوري – قصة الإطفائي سمير غفار محمد الذي يوجه إصبع االتهام إلى من يؤكد أنه/ أنهم فجروا المرفأ… لكن كل القصص والشبكات تتبأر في عازفة البيكاديللي، وبالتالي في موسيقة الرواية، ًء بوالد لينا الذي قتل في الحرب كما قتل زوجها أنطوني، ومن بعد كما قتل ابتداء الإطفائي سمير، ومن الصلة الفنية الإبداعية، الصلة الموسيقية بين الوالد المعلم 3 جوزيف وفيروز والرحبانية، إلى عزف لينا في الحفل الفيروزي الرحباني، إلى عزفها سوناتا الغياب ألمها، تتكور وتتقد موسقة الرواية، فيأخذ قراءتَها سح ُر كونشرتو لفرانز ليزت وسيمفونية أحالم الحب والنشيد الأسكتلندي وألوان الرابسودي ونشيد العودة… بسحر الموسيقى الكلاسيكية والموسيقى الرحبانية تتخفف الرواية مما كان سيثقل عليها أحيانا ية الغزيرة، مثل شارع الحمرا، أنواع البيانوهات، عطر شانيل 5 ،من المعلومات تاريخ البيكاديللي نفسه، ولكن سحر الموسيقى، كيال أقول الهندسة الموسيقية للرواية، تأخذ القراءة إلى حيث تشاء، وبخاصة في أسطرة لينا والبيكاديللي، كما كتب ماسي في إهدائه نسخة من كتابه إلى لينا “ألنك المرأة والمدينة والبيكاديللي”. في للحياد والتآخي، وواحةً ولينا هي التي ترى البيكاديللي مثل الحمرا مكاناً رمزياً ظل الموت. ولم يمنع الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 لينا ومن معها من إقامة سهرة موسيقية برفقة الفريق السيمفوني لبيروت. لينا التي تحل محل المايسترو في إحياء البيكاديللي 2020 ، هي التي تعزف في خراب بيروت كالتي عزفت في خراب هيروشيما، وتخطط لنقل الاحتفالية إلى المرفأ. تقول لينا للشاب العراقي السيرياني أنكيدو رئيس جمعية أنصار الحمرا وصديق إيما: “البيكاديللي تاريخ في قلبي”. ومع معبد الفنون هذا – البيكاديللي، تسكن قلب لينا قصة العشق الأسطوري مما عاشت في صباها، وعادت لتومض وتتلفز في احتفالية البيكاديليي 2020 ،ترسل عازفة البيكاديللي الصوت الروائي للبيانو: “صوت يشبه زقزقة المياه في واد موحش، لا شيء فيه إلاّ الطيور وحفيف الأشجار وعوا ٌء كان ينزلق من بعدٍ سحيق”
غرفة 19
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”
- كتاب من اكثر الكتب تأثيراً في الأدب العربي والعالمي تحليل نقدي لكتاب- “النبي” لجبران خليل جبران
- فيروز امرأة كونيّة من لبنان -بقلم : وفيقة فخرالدّين غانم
- سلطة الدجاج بالعسل والخردل
- فلسفة القوة عند نيتشه