ميسون شقير لموقع المدن الجمعة 2022/01/14
الشاعر الذي سكن بغدادي، طيلة سبعين عاماً، كان أيضاً طفلاً يحاول أن يغير ملامح العالم، ويخاطب الطفل كما يخاطب الكبار بذكاء وخفة وشاعرية حتى تزول الحدود الفاصلة بين النص الناجح للطفل، وبين قدرته على إثارة دهشة ونشوة متلقيه الكبار
ما بين جناحي الشعر وعكازي السياسة، وما بين يدي الموقف الانساني الداعم دائماً وأبداً لكل الفقراء والكادحين والمظلومين، والرافض لكل أشكال الاستبداد، والتهميش الإعلامي المقصود، عاش الشاعر السوري شوقي بغدادي ضيفاً خفيف الظل، عميق الأثر، على المشهد الأدبي السوري، طيلة أكثر من سبعين عاما، وكأنه حارس التاريخ السوري الحديث، وحارس الفكر الاشتراكي مثلما هو حارس الشعر لأجيال عديدة.
شوقي بغدادي كان أحد الذين ربوا فينا ذائقتنا الأدبية، وأحد الأدباء القلائل الذين ساهموا في بناية وعي متحرر ينحاز دائماً للانسان ولحريته. يدله من خلال الشعر، “حصانه الخشبي الوحيد”، على ذاته وعلى وعيه لهذه الذات، وعلى اكتشافه للجمال فيه وفي كل ما حوله. كان له أيضاً دور حقيقي فعال في تأسيس أول تنظيم أدبي سوري العام 1951 الذي تمثل حينها في ما يسمى “رابطة الكتاب السوريين” التي شاركت في تأسيسها ثماني شخصيات أدبية سورية بارزة هي حنا مينة وحسيب ومواهب كيالي وصلاح دهني وفاتح المدرس وليان ديراني وشحادة الخوري وسعيد حورانية، وانتسب إليها في العام 1952 كل من حسين مروة ورضوان الشهال من لبنان، وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس من مصر، وبعض الكتاب العرب، ثم تحوّل اسمها إلى “رابطة الكتاب العرب” وانتُخب شوقي بغدادي أول رئيس لها
وشوقي بغدادي هو أيضاً أحد الأدباء القلائل الذين لم يستطع الزمن ولا العمر أن ينهك أحصنتهم، بل زادها أصالة وخبرة، ومن الذين ما زالوا يراهنون على الشعر كمرآة حقيقية لأرواحنا، وطريق إجباري للخلاص. فشوقي بغدادي الشاعر والانسان لم يتعب ولم يستسلم، على الرغم من تراجع حضور الشعر في هذا الزمن. وهو صاحب المواقف الأخلاقية، لم يقف يوماً مع الديكتاتور ولم يطبل أو يزمر له، ولم يقبل أن يكتب قصيدة فيه، ولعل هذا ما جعل نظام الأسد يحجّمه دائماً، ولا يضع شِعره ضمن المناهج المدرسية. وتبنى بغدادي، منذ قيام الثورة السورية في آذار 2011، موقفاً مدافعاً عن حق الانسان السوري في العيش في بلد تحكمه الديموقراطية والعدالة والمساواة، وليس الخوف والمخابرات والديكتاتورية، وقد قال ذلك في ديوانه قبل الأخير الذي نشره العام 2016 تحت عنوان “جمهورية الخوف”
احتفى بغدادي، قبل أيام، وهو على مشارف منتصف التسعين من عمره، مع أصدقائه في دمشق، بإصدار ديوان جديد له يحمل عنوان “بعد فوات الأوان” صادر عن دار سويد للنشر والطباعة والتوزيع بدمشق. وكان لافتاً حضوره بكامل رونقه وأناقته وإطلالته المبتسمة المعتادة، وتوقيعه الهادئ والمتزن لديوانه الجديد لمحبيه الحاضرين الكثر، كأنه ما زال واقفًا في وجه الزمن، ومع العمال في كل أصقاع الأرض، إذ امتلأ هذا الديوان بقصائد جديدة نابعة من ذاكرة طفل يدخل عالم الخوف وعالم المرأة بكامل طفولته، وبكامل رهافته الحسية، وبكامل توق الانعتاق، فليس الشعر إلا نبوءة البراءة فينا، وصوت الطفل الذي لا ينام
ويقول بغدادي عن ديوانه الأخير: “عندما جاءني اتصال صاحبة الدار تطلب لقائي للحديث عن إمكانية نشر ديواني الشعري، لم أتردد لحظة، لأني مؤمن بأن للشعر وقعه الذي ما زال قوياً. وتم اللقاء، وكنت سعيداً به. عندما تعرفت على مانيا سويد، تبينتُ مدى صدقها تجاه مشروعي الفكري والأدبي وضرورة تقديمه الآن، وعرفت منها أني كنت أستاذاً لزوجها في مادة اللغة العربية منذ سنوات طوال في مدرسة في دمشق، وهذا ما جعل علاقتي بالمشروع وأصحابه أكثر حميمية”
في هذا الديوان يقرأ بغدادي موته في حياته، ويعرف أن من يقف مع المظلومين لا يموت:
“حلمت أمس أنني أموت/ وأن جثتي يرفعها العمال أعلى من التابوت/ قلت لهم تمهلوا لا ترفعوني عاليًا/ فأرجعوني نحو أقرب البيوت/ قولوا لهم هو الذي صاح بنا: هيا ارجعوا: ونحن لا نعرف بيته فأين نرميه إذن/ استغرب السكان حين صرت عاريًا بينهم/ فألبسوني كفنًا ممزقًا فرفضته/ وحين فتشوا عندهم لم يجدوا من الثياب ما يروق لي/ وهكذا صاحوا: مقبرة الأغراب ليست بعيدة/ إمض إليها قبل أن تغلق الأبواب/ وهكذا سايرتهم وقلت في نفسي/ أفضل ما أصنعه الآن إذن/ لا بد أن أموت”
الشاعر الذي سكن بغدادي، طيلة سبعين عاماً، كان أيضاً طفلاً يحاول أن يغير ملامح العالم، ويخاطب الطفل كما يخاطب الكبار بذكاء وخفة وشاعرية حتى تزول الحدود الفاصلة بين النص الناجح للطفل، وبين قدرته على إثارة دهشة ونشوة متلقيه الكبار. فيقول
“أبصرتُ الذئب الأغبرَ
في صُحبة ليلى
كان يداعبها وهي تزقزقُ
وأنا أتعجَّب كيف تناست
عن أذنيه
وعن أنياب كانت تبرز من فكـَّيْه
يا ليلى.. يا ليلى!”
ولم تغب فلسطين عن شعره، كأنها الجرح الذي ينز في كل حرف، لأنه يدرك تماماً أن وجود الكيان الصهيوني لن يجعل لأي انسان في المنطقة حياة وكرامة، لكن طرحه للقضية الفلسطينة كان شفافاً جميلاً موجعاً على نار هادئة، تطهو قهرنا وفجيعتنا جيداً. فها هو هنا يطرح مأساة فلسطين من خلال هذا المشهد الشعري القصصي، وفيه الكثير من الرهافة والبناء المتقن
يقول بغدادي:
“في درس الرسم تسابقـْنا
كان الموضوع هو السكينْ
أنجزت الرسم سريعاً
ثم نظرت إلى جاري من “غزة
يرسم ويلوِّنُ
يا لـَلدَّهشه
***
في درس آخرَ
قال معلمنا: ارسمْ بلدتك كما تتصوَّرها
فرسمت على ورقي أجمل بلـْده
لكني حين نظرت إلى جاري من “غزة
لم أبصرْ – يا لـَلعجب
سوى ورده
هو “شاعر القضايا الكبرى والتفاصيل الصغيرة”، وهو شاهد الزمن الحي، شاهد ثورة سوريا الأولى على المستعمر الفرنسي، وشاهد مرحلة الاستقلال ودخول الفكر الديموقراطي إلى المنطقة، وشاهد مرحلة نظام الأسد واغتياله للحريات وللديموقراطية في سوريا، وشاهد جمهورية الخوف التي شكلتها عائلة الأسد، وأيضاً شاهد ثورة السوريين في آذار 2011، وشاهدة موتهم الذي لا يتوقف. فتحية للشاعر الطفل، تحية لما تركه فينا، وللشعر والجمال الذي قد يحمينا يوماً من كل هذا العفن، وقد يحمي سماءنا من السقوط. تحية لك من جيلنا قبل فوات الأوان