وضع الكاتب اللبناني الراحل، عصام محفوظ، توليفة حوارية مدهشة بين جبران ومي زيادة، وبين جبران وصديقته الأثيرة ماري هاسكل. هدف التوليفة رسم صورة عن قرب لجبران، حيث لم يكن بالإمكان تخيّل صورة حسيّة عنه إلا عبر الحوار، والحوار مع الآخرين تحديداً لا الحوار مع الذات، لأن جبران، والكلمات لعصام محفوظ، «ما كان ليستطيع رسم صورته إلا من خلال مرايا الآخرين».
لم يلجأ محفوظ إلى أعمال جبران الأدبية بل إلى رسائله الخاصة، من أجل أن يرى فيها ما وصفه «ضعف» جبران الذي لم يتوافر حقاً، برأيه، إلا في هذه الرسائل. إلا أن الحديث عن ضعف هنا هو موضع نقاش، لأن ما يتبدى من الرسائل هو ذاك الجانب الأكثر براءة في شخصية جبران، على النحو الذي رأيناه في مراسلات غسان كنفاني إلى غادة السمان، لنقل مجازاً إنه الضعف الإنساني الاعتيادي الذي لا يناقض الشجاعة والقوة، وحتى الاعتداد بالذات أحياناً.
امتدت مراسلات جبران ومي زيادة حقبة زمنية طويلة (عشرين عاماً) دون أن يلتقيا مرة واحدة. كان جبران في مهجره بالولايات المتحدة وكانت مي في القاهرة، وكان جبران يتحاشى مثل هذا اللقاء المباشر ربما رغبة منه في إبقاء المسافة ممتدة بينه وبين مي، كي تبقى العلاقة فوق مستوى المألوف اليومي، ولكن من يقرأ الحوار المذكور يندهش إذ يعرف هذه الحقيقة، لأن الحوار ينم عن تواصل حميم يلج إلى تلك المواضع التي لا يقاربها عادة إلا الأشخاص المحبّون، وهو إلى ذلك مليء بالتفاصيل التي تحدث عادة في علاقات الحب: العتاب والشوق الشديد والمناجاة.
قال جبران مرةً عن نفسه إنه الرجل الذي أوقعه الله بين امرأتين، واحدة تحوك من أحلامه يقظته، وأخرى تحوك من يقظته الأحلام، وإذا كانت مي هي هذه الأخيرة فإن ماري هاسكل كانت الأولى، لذا فإن مراسلاته معها تعكس بين ما تعكس حوار حضارتين، غربية وشرقية. فالمرأة الغربية المأخوذة بهذا الرجل الشرقي الحالم تهتم بتفاصيل نشأته وعائلته وبيئته ومصادر تكوين ثقافته، وكان جبران يجد لذة في الإجابة عن الأسئلة التي تطرحها عليه، لذا اشتغل عصام محفوظ على سبعة آلاف صفحة تركتها ماري هاسكل في مكتبة جامعة نورث كارولينا في الولايات المتحدة متوخياً تقديم الخطوط الرئيسية لملامح شخصية جبران.
من مراسلات جبران للمرأتين، مي وماري، يمكننا ليس فقط أن نمسك بنقاط التقاطع بينهما، وإنما نستمتع بمعرفة الجانب الأجمل والأكثر إثارة للفضول في شخصية كل إنسان، على نحو ما تفعل المراسلات الحميمة عادة، التي نشرت في كتب تندرج في ما يمكن اعتباره جنساً أدبياً يطلق عليه «أدب الرسائل».
المصدر: صحيفة الخليج