في طفولتي المبكرة كانت جدتي لأمي تشكل لنا جميعاً ، المرجعية الأولى في كل أمر ، رجالاً ونساء وحتى نحن الصغار ، بسبب الغياب الطويل لرجال العائلة في أسفار الغوص والتجارة ، فهي مدبرة شؤون البيت بجميع احتياجاته، هي الموجهة والآمرة والطاهية التي لا يشق لها غبار في كل مجال، فما تعده من أطعمة كان مضرب المثل، وكان اسمها يتردد في منازل الجيران كأفضل من يطهو الطعام، وأظنني ورثت هذا الميل عنها!
امتلكت تلك السيدة الصارمة همة عالية على الدوام ، ونشاطاً لا يهدأ، كانت في شبابها وحتى حين تجاوزت التسعين عاماً تكره الكسل والاتكال على أحد ، كانت تفضل ان ضطلع بكل شيء بنفسها ، تحملت باكراً مسؤولية عائلة ليست صغيرة، في عمر مبكر ، وزمن كان تدبير حياة شخص واحد أمراً ليس هيناً، في ظل اقتصاد شحيح، وموارد معيشية تتصف بالندرة، وحياة على الإنسان لكي يستمر فيها أن يصارعها ليلاً ونهاراً، كي يأمن ظروفها وعواقبها، لذلك فقد كابدت جدتي الحياة بصلابة نادرة ورثتها عن أهلها سكان الجبال البعيدة!
لم تذهب جدتي ( فاطمة) للمدرسة، حتى مدرسة القرآن لم ترها في حياتها، لكنها كانت تطبق في بيتها كل النظريات الاقتصادية الحديثة: ترشيد الإنفاق، تحقيق الاكتفاء الذاتي، الاعتماد على النفس، والتعلم بالمحاكاة.. لذلك امتلكت أبقاراً كفلت للعائلة موارد غذائية دائمة، وأموالاً تدرها عمليات بيع منتجات الألبان.
ولأن التعامل مع الموارد يجب أن يتم بتقنين، وبعيداً عن العبث فلم يكن يسمح لأي فرد وخاصة الصغار بالتخلف عن موعد الوجبات، ومن يفعل فلا نصيب له من الطعام، وسيبيت ليله جائعاً، كانت تحذرنا دائماً، من أن من سيتغيب في وقت الغداء سيجد “حجراً “في القدر عند عودته ، وهذا ما حدث ذات مرة بالفعل، كان التعاطف والتسامح والتماس الأعذار ، ممنوعا على الامهات ، أما محاولة إعداد طعام بديل لنا ، فكان من رابع المستحيلات، لذلك فتجربة الغياب عن موعد الغداء لم تتكرر أبدا .
وبالرغم من كونها لم تتعلم ولم تقرأ، ولم تكن تستمع لإذاعة صوت العرب في تلك الأيام البعيدة كجدي وكوالدتي ، وبالرغم من ذلك فقد سمعت عن لبنان وطقسها البديع وأنا طفلة من فم جدتي، حينما كانت تصف الطقس الجميل بقولها: «هوانا اليوم كأنه نسايم جبل لبنان»! وحتى اليوم حين اسأل والدتي من أين عرفت والدتي عن نسائم جبل لبنان في تلك الأيام البعيدة ، تجيبني من قصائد الشعراء التي يتناقلها الناس في المجالس . لقد كانت تنصت، وتحفظ ما يردده الناس من قصائد الشعراء !