عندما كنت طفلا، كنت أقضي عطلة الصيف عند جدتي الجميلة رحمها الله. كانت تعد قهوة الصباح في إبريق يغلي على نار هادئة.
وكنت أشرب هذه القهوة في كأس زجاجية شفافة أنيقة، أتمتع بها رشفة رشفة، إلى أن يتبقى في الأسفل الثُّفْل، الذي نسميه في المغرب “التَّخْتْ”، وكنت أطيل النظر في قاع الكأس عند الرشفة الأخيرة، وأرى صور الأطفال الذين كنت أعتقد بأنه لم يكن بيني وبينهم ود، لأني كنت أتذكر لازِمَة مدرِّس اللغة العربية، الذي كان يذكرنا في كل لحظة بأنه لا يريد أن يرى منا في المستقبل من ينضم إلى حثالة المجتمع.
– ما معنى حثالة المجتمع ، أستاذ؟
– الحثالة … أولئك الذين يؤثتون القاع.
كنت أعتقد بأنني فهمت أستاذي.
بعد سنوات، ما عادت الجدة بيننا، ولا أستاذي ولا عادت معدتي تسعفني في شرب القهوة، وعرفت أن أستاذي وهو يشرح معنى حثالة المجتمع، مر من الجانب ولم يتعمق لكوننا كنا أطفالا، وعرفت أن الحثالة لا علاقة لها بالأطفال الذين كنت أخاصمهم ويخاصمونني، بل هم اولئك الذين فقدوا بوصلة القيم فرادى، ويُفقدونها للمجتمع جماعةً.
اليوم، كثر حاملو مطارق هدم القيم والأخلاق في المجتمع، مُربّو مخالب قادرة على الجر نحو القاع كلّ من سولت له نفسه البقاء في الأعلى، وصرت أشكر معدتي على عدم مسايرتي في شرب القهوة لأني لن أستحمل هذه المرة لقاء عيني بالثُّفْل عند آخر رشفة.
لقد كان قاع الكأس ليعج بالصور.
لقد كان لينفجر.