جدلية الإعلام والأدب في زمن السرعة
حين يتحوّل الأدب إلى مادة إعلامية قد يخسر لغته
وإيقاعه وتمرّده ويكسب شهرة بلا عمق.
— محمد برادة
بهذه العبارة الدقيقة لا يحذر محمد برادة من خطرٍ داهم وإنما يُنبّه إلى أزمة عميقة في جوهر العلاقة بين الإعلام والأدب حين لا يعود الإعلام منصّة لخدمة الكلمة بل يتحوّل إلى سلطة تُعيد تشكيلها وتوجيهها وفق إيقاع السوق لا حسب نداء الإبداع.
لقد كان من المفترض أن يكون الإعلام الثقافي حليفًا طبيعيًّا للأدب حارسًا لجمالياته وناقلًا لرسالته إلى جمهور أوسع لكنّ ما يحدث اليوم في مشهدنا العربي ينذر بعكس ذلك؛ صار الأدب يُقصّ ليُناسب الصورة ويُختصر ليُلائم زمن النشر وتُستبعد الأعمال العميقة لأنها “ثقيلة” على المتلقي أو لا تحقق تفاعلًا سريعًا.
وهنا يتوجب أن نعيد صياغة السؤال الجوهري: من يخدم من؟ الإعلام يخدم الأدب؟
أم الأدب أصبح أداة لتزيين الإعلام؟
إنّ الساحة الثقافية باتت تعاني من انقلاب المعايير حيث تُدار المنابر لا بروح رسالية بل بعقلية انتقائية تكرّس الواجهة وتقصي العمق وتُفضّل القابل للعرض على القابل للتفكير فالشاعر اليوم يُسأل عن حضوره الإعلامي لا عن مشروعه الجمالي والروائي يُقوَّم بعدد متابعيه لا بما أثاره نصه من أسئلة في وجدان قارئه.
والمسؤولية هنا لا تقع على الإعلام وحد بل كذلك على من يتقلّد المناصب الثقافية والإعلامية لأنّ هذه المواقع ليست ترفًا ولا وجاهة بل أمانة تتطلّب التواضع والعطاء، ومعرفة دقيقة بثقل الكلمة وحرمتها.
قال غسان كنفاني من كتاباته ومقالاته السياسية.
“الصحافة ليست مجرد مهنة، إنها ضمير الأمة حين ينام الضمير.”
هذا القول يدفعنا إلى معانقة الواقع لنرى ما أكثر أولئك الذين يتصدّرون المشهد الثقافي والإعلامي اليوم لا لأنهم خدموا الكلمة بل لأنهم خدموا أنفسهم من خلالها.
حين تتحوّل المراكز الثقافية إلى واجهات والمؤسسات الإعلامية إلى أدوات ترويج، فإننا نخسر الاثنين: نخسر الأدب كرسالة ونُفرغ الإعلام من صدقه .
وحين يُقصى الأديب الحقيقي لأنه لا يُجيد الترويج أو لأنه لا يتقن “فنّ التصفيق” فإننا نخسر ضمير الكلمة لحساب بهرجتها غير أنّ الأدب بطبيعته عملٌ طويل النفس بطيء الانتشار عميق الأثر لا يُقاس بمؤشرات رقمية ولا يُختصر في مقاطع بل يُبنى عبر تراكم فني وروحي وفكري وإن لم يفهم الإعلام ذلك فلن يكون حليفًا للثقافة بل عبئًا عليها.
يحب التركيز على اعادة شرح المفاهيم لنتعرف أن المنصب في المجال الثقافي ليس سلطةً على الإبداع ولكنه منبرٌ لخدمة من يملكون أدوات الإبداع الحقيقي فمن لم يكن في موقعه لخدمة الأدب، فبقاؤه في المنصب ضررٌ مضاعف.
ولكن يجب أن نقر رغم كل هذا التداخل بأن العلاقة بين الأدب والإعلام ليست مجرد تقاطع عابر بل هي جدلية عميقة تُعيد تشكيل الذائقة وتؤثر في الوعي الجمعي وتُحمّل المثقف مسؤولية مزدوجة: مسؤولية الكلمة ومسؤولية الأثر وبين غواية التسرّع الإعلامي وإغراءات الشهرةيظل الأدب الحقيقي حارسًا للمعنى يُقاوم الرداءة ويُعيد رسم ملامح الوعي بصبرٍ وجمال.
وعليه فإن واجبنا الثقافي يُملي علينا أن ننظر بعين الأمل والمسؤولية فنُسهم كلٌّ من موقعه في ترسيخ إعلامٍ نظيفٍ راقٍ، يُنصف الكلمة ويحتفي بالقيمة لنجعل من الساحة الأدبية فضاءً أنقى وأجدر بالاحترام ونقول إلى من يهمهم الأمر:
أعيدوا الاعتبار للمعنى قبل الشكل
لا تُفرّغوا الأدب من جوهره لأجل فتات التفاعل
ولا تُحمّلوا الإعلام ما لا يحتمل من زيفٍ وإقصاء
فالكلمة ليست مادّة للعرض بل شعلة تضيء وعي الإنسان
الأدب لا يُخدم بالصورة، والإعلام لا يُقوَّم بالتصفيق
ومن لا يُدرك قدسية الكلمة… فليتنحَّ بصمت

د.آمال بوحرب
رئيس الهيئة الإعلامية
باحثة وناقدة