
قراءة تاريخية–سوسيولوجية–حسّية في ملامح المكان ومعناه
لم يكن السوق القديم في عمشيت مجرد فضاءٍ تجاريّ تقليديّ يحفل بالمحلات المتلاصقة، بل كان نواةً اجتماعية حضارية، وذاكرةً حيةً تتقاطع فيها تجارب الأجيال وأحاسيسهم.
هو فضاء مركبٌ، يستحيل اختزاله في وظيفة البيع والشراء فقط، فهو يشكل عقدةً تواصلية بين الحكايا والمشاعر، والتقاليد التي تعانق الحداثة، بين الماضي والحاضر، حيث يتحوّل التبادل المادي إلى طقسٍ يوميّ يحتضن في أبعادِه جماليةً إنسانية حية.
أولًا: السوق صوتًا… حين يعزف المكان لحن الحياة
لم تكن أصوات السوق في عمشيت مجرد ضوضاء عشوائية، بل هي إيقاعات منتظمة ومتكررة، تحاكي التفعيلات الشعرية العربية القديمة.
يُسمع صوت المطرقة على السندان كنبضٍ متواتر يحمل دلالات القوة والصلابة، بينما نداءات الباعة تفيض بالشجن والحنين، تجذب المستمع كأنها موالٌ شعبيّ، تُشدُّ الحناجر وتُغنّى عبر الأزقة.
حتى خطوات المارة فوق البلاط الحجري كانت تتماهى مع إيقاعٍ فنيّ ينسج وحدةً اجتماعية بين المتعاملين، يخلق مسرحًا مفتوحًا للحياة بكل تفاصيلها، تلتقي فيه أقدام الغني والفقير، ويتلاقى العابرون في لغة تواصل غير مكتوبة.
هذا الصوت المزيج، من صخب الحياة اليومية، يشكل موسيقىً جماعية، تدلّ على كثافة العلاقات الاجتماعية، وتثبت السوق كـ”ساحة للتلاقي”، يتشارك فيها أهل البلدة مصيرهم اليومي وحكاياتهم الصغيرة.
ثانيًا: السوق رائحةً… حين تنطق الحواس بذاكرة المكان
كما يؤكد مارسيل بروست في كتابه “البحث عن الزمن المفقود”، فإنّ الرائحة تحمل مفتاحًا قويًا لإحياء الذكريات.
في عمشيت، كانت رائحة صابون الغار من دكان “يوسف سليمان” رمزًا خاصًا، يخترق الذاكرة ويغدو علامةً مميزةً في وعي الأهل. ويوسف سليمان هذا كان يفخر أنّ لديه في دكّانه كلّ شيء. وقد عرض، في ذلك الحين، أي في منتصف السبعينات، مبلغ ألف ليرة لمن يطلب شيئا، ولا يجده غي محلّه.
تمتزج رائحة الخبز الطازج المنبعث من أفران التنور، فيغنّيه ابن عمشيت الفنان مارسيل خليفة، مع نفحات القهوة العربية لتُعيد الزائرين إلى ذاكرتهم الطفولية، حيث دفء المكان وصدق الأحاسيس.
حتى دخان التبغ الملتفّ بين أركان السوق، كان جزءًا من الطقس الحسيّ، ليس كعامل تلوث بل كنافذة تذكارية تعبّر عن حياة متجددة، تنمو على تناغم الروائح اليومية.
هكذا، تكون الرائحة في السوق لغة حسّية تتجاوز الكلمات، تخاطب الذاكرة الجمعية وتؤسس لشعور الانتماء العميق.
ثالثًا: السوق معمارًا… حين يتحدث الحجر عن الناس
تتجاوز قناطر السوق وأبوابه الخشبية المنحوتة كونها مجرّد تفاصيل تقليدية، لتصبح نصوصًا صامتة، تنطق بحكايات السكان.
كل قوس في السوق يشبه بيت شعر مكتمل المعنى، وكل شرفة خشبية تُذكّر بنسائم الحياة التي كانت تهبّ عبر الأزقة.
النقوش والزخارف على أبواب الحوانيت، ليست زخرفةً فقط، بل تمثل رموزًا وطباعًا اجتماعية تحكي قصص الصانع والزبون، وتأريخًا لجماليات تراثية ذات دلالات ثقافية عميقة.
بذلك يتحول المعمار إلى بلاغة بصرية، تأسر العين لتصل إلى قلب المشاهد، وتغرس صورة السوق في ذهنية كل من عايشه، حاضراً كان أو غائباً.
رابعًا: السوق عاطفةً… حين يُروى الحبّ بالفطرة
يُغنّي الزجل المحلي في عمشيت السوق بوصفه مكانًا للحب واللقاء أكثر من كونه مجرد مركز تجاري:
“من سوق عمشيت خذ عطرَك،
فـي دَرج الباب يسكُنُ عيدك…”
في هذا السياق، يصبح السوق منتجًا لذاكرة داخلية، وعيدًا متجدّدًا، وعطرًا يعبّر عن الحميمية.
اللقاءات الأولى، الرسائل المخبأة، الضحكات الطازجة، كلّها تتشكل في ذاك المكان.
السوق شاهد على المشاعر وأحيانًا مُحرك لها، حيث تكتسب العلاقات وجدانًا خاصًا ينبع من الألفة والتقاليد المشتركة.
خامسًا: السوق ذاكرةً… حين يُروى بالحنين
مع تراجع نشاط السوق وانخفاض وتيرته عبر العقود الماضية، لا يزال حيًا في وجدان أهالي عمشيت، ليس لأنه مكان بيع فحسب، بل لأنه مكانُ التكوين والذاكرة الحيّة:
• الطفل الذي اشترى لعبته الأولى هناك.
• العروس التي تأخرت على دكان الصابون لاختيار ما يناسب جهازها.
• الرجل الذي جلس مع أصدقائه تحت القنطرة يلعب الطاولة حتى الغروب.
إن السوق ليس مجرد فضاء مادي، بل قصيدة غير مكتوبة تحفظها الألسنة والقلوب، مثل أسماء الشوارع الأولى ورائحة الأرغفة الدافئة.
خاتمة: من العين إلى القلب… ومن السوق إلى الهوية
يتضافر في السوق العمشيتي كلّ هذا المشهد الحسيّ والثقافي ليشكّل مفهومًا للجمالية لا تنبع من زخرفة سطحية، بل من الألفة، المعايشة، والتواصل بين الناس والمكان.
السوق يُكتب يوميًا بتفاعل الناس الذين يزورونه، وتُعاد قراءته عبر الذاكرة التي ترسّخ جذورها، في استدعاء أصوات المطرقة، ورائحة الخبز، وألوان القنطرة عند الغروب.
فالسوق ليس فقط ما تراه العين، بل ما يلمس القلب، ويقيم في الحنين، ويذكّر بأن الجمال الحقيقي ليس ما يُشيّد بالحجر فحسب، بل ما يُعاش ويُتجسّد في العلاقة الإنسانية مع المكان.
لذلك، ومن منطلق الحرص على الهوية العمشيتيّة الأصيلة، المعتّقة بالأخلاق والقيم، انطلاقاً من المثل الشعبي القائل:” من عمشيت وبتغشّ؟”، ندعو إلى إعادة إحياء السوق القديم، في عمشيت، كي تستعيد النخلة العمشيتيّة رونقها وأصالتها، وهي ترفع نداءها إلى السماء، في صلاة وابتهال.