يوسف طراد
المصدر النهار
كتاب “وطنٌ اسمه فيروز” الصادر بإصدار خاص عن نشرة “أفق” التابعة لمؤسسة الفكر العربي، هو في حقيقة الأمر مبهج، وفيه كاد يتحقق شعور بالامتلاء من الرضاء لدى سبعة وثلاثين كاتباً، كتبوا عن رحلة السيّدة فيروز مع الغناء، بصوت بلسم الأرض والفضاء بمداد من أرجوان النقاء، وذلك تكريماً لهذه السيّدة المعجزة في عيد ميلادها الثامن والثمانين.
مقالات سكنت الكتاب المضيء بأنوار تراقصت على كامل صفحاته، كارتعاشة الأرواح التي تهفو للذة الصوت الأبدي. وإن كان معظم هذه المقالات ببنيتها هي من الأدب التقريري عن سيرة فنيّة فريدة، فقد جاءت مضمّخة بالمجد الحي للحضارة الرحبانيّة.
ونحن نتيه حائرين في دوائر نرجسيتنا، وفي صحاري تيهنا الحضاري خلف ملامحنا البشريّة، ينتشلنا صوت “فوقِ- بشريٍّ” من ظلمة أعماقنا، وإلى صحوة الشوق، نترافق مع أستاذ الفلسفة في جامعة الحسن الثّاني- المغرب، عبد الإله بلقزيز: “الرحبانيّان اللّذان أدركا أنّ مشروعهما الجديد في التأليف الموسيقيّ للغناء لن يجد حامله إلى العالم إلّا في صوتٍ بشريٍّ، أو، بالأحرى، فوقِ- بشريٍّ، مثل صوت فيروز، يملك من طاقات التعبير عن الحساسيّة الجماليّة الرحبانيّة ما لا يملكه صوت آخر”. من مقال لبلقزيز “فيروز التي في الوجدان.. فيروز التي في المكان والزمانً (صفحة 12).
غنّت فيروز لبحيرات مليئة بدموع المظلومين، وكانت صوتهم المكبوت بظلم المستبدّين: “مع فيروز، كناطقة أبديّة باسم البحيرات، لا مجال البتّة لأيّ كلامٍ عن الهزيع الأخير من العمر، أو عن الهزيع الأخير من الحياة” من مقال “تريدون خلاص لبنان لتكن هذه الأيقونة/ الملكة” للكاتب والإعلامي اللّبناني نبيه البرجي، (صفحة 19). وقد أعادت لنا أعمارنا المسلوبة ولو في الحلم.
للسماع اندمال للندوب التي إنطوت في الذاكرة، وتأتي الأعجوبة الفيروزيّة من دون استئذان باسطة سحرها الأسطوريّ في الفضاء كاسرة قيود النسيان: “وهذا الزاد الفنّي الإبداعيّ -طيلة ثلاثة عقود فيروزيّة رحبانيّة متتالية خصيبةٍ أعجوبيّة العطاء- سجّل حضوره العميق في الذاكرة الشعبيّة الجماعيّة…” من مقال بعنوان “فيروز سماء الكوكب الرحبانيّ” للشاعر اللّبنانيّ هنري زغيب (صفحة 35).
كيف كان صوت فيروز منقذنا، عندما خرجنا عنوة من رحم الآمال المتدحرجة نحو الهاوية؟ هل هو فعل الحبّ؟ حبّنا للصوت الملائكيّ!!: “حمّلها الرحابنة رسائل الحبّ بقدر ما حمّلوها الآمال…” من مقال بعنوان ” فيروز مُطربة الماضي والحاضر والمستقبل”، لرفيق رضا صيداوي من هيئة التحرير في مؤسسة الفكر العربي. (صفحة 41).
هل كانت فيروز تصدح مع الملائكة في فضاء أثينا، إيماناً بلبنان الذي حمله قدموس حروفاً فينيقيّة إلى أصقاع الدنيا، لأنّ الربّ أمره بزرع نصف أسنان التنّين بناءً لأوامر “بالاس” في أرض سار عليها أفلاطون من بعده، ونبت منها شعب “الإسبارطيين” أي المزروعين؟. فعن الصور التي تقفز إلى الذهن من خلال الأغاني الفيروزيّة كتب الناقد السعوديّ سعد البازعي ضمن مقال بعنوان “فيروز الكلمات” في الصفحة 53 من الكتاب: “فإنّها تظلّ تجسداً أفلاطونيّاً تقريباَ للحسن المتأبّي على الآخرين، المشغول بنفسه، المكتفي بما لديه بطريقة قدسيّة أو إلهيّة”.
فيروز التي غنّت “يا جسراً خشبياً”، كان وما يزال صوتها الجسر بين الهنا والغربة، وتنفر دمعة تغسل ملح الحياة الفاسد في المنافي. فقد ورد ضمن مقال للشاعر والكاتب العراقي مؤيّد الشيباني تحت عنوان “فيروز…سيرتنا الذاتيّة”: “كان ذاك الشابّ يفزّ مثل طيرٍ مذبوح حين يسمع صوت فيروز قادماً من بعيد، يفزّ اليوم بعد نصف قرن، حين يسمعها في محطّة قطار بعيدة أو في مطار غريب، وهو يعبر المنافي.” (صفحة 61)
مثل ما أوحى لنا صوت فيروز بنوافذ مشرّعة للحبّ وأشعة الشمس وضوء القمر، سيبقى صوتها سبحة بيد كلّ مؤمن بالسلام الروحي، وتكون هذه السبحة سلمه إلى الأمان. لنقل مع الباحثة والناقدة العراقيّة ناديا هناوي: “وقد يكون الإيحاء المتعمّق في الظواهر والتعاطي الواقعي مع القضايا المصيريّة هو التفسير المناسب للظاهرة الفيروزيّة”، من مقال للهناوي تحت عنوان “الظاهرة الفيروزيّة: فرادة الهويّة وعمق المضامين” في الصفحة 72 من الكتاب.
نعم، إنّ صوت السيّدة فيروز حنطة منخولة بمناخل فلاحين فرحين بعطاء تراب بلدانهم، لأن الرب رزع الفرح في نفوسهم. فقد ورد في افتتاحية مقال الكاتب الأردني زياد جمال حدّاد، تحت عنوان “السيّدة فيروز وكلمات جوزيف حرب”: “لأنّها بصوتها تقصِّر المسافة بين المستمع إليها وبين الله” (صفحة 80).
ماج الحقل المملوء بسنابل القمح الذهبية بعد استئساده، موحياً بالعطاء بعد شقاء زرعٍ وفرح حصادٍ. وقد غنّت السيدة فيروز الحقول وأبهجت العقول، ومنهم الناقد الموسيقي السوري سعد الله آغا القلعة، الذي كتب في الصفحة 91 من الكتاب ضمن مقال بعنوان “التعبير عن المعاني في أغاني فيروز”: “… ومع تموّج صوت فيروز المضمّخ بالتعبير، الذي يُبرز تلك الأبعاد الدراميّة، ما يكشف أخيراً، فرادة نِتاج هذا الثلاثي، فيروز والأخوين رحباني، وأسباب استقراره في عقول الناس وأفئدتهم!”.
عندما تغنّي فيروز في حضور استدارة البدر، يتسمّر القمر في السماء فوق المسرح، ويرحل في نهاية الحفل، متأسّفاً على مغادرة طبيعة زادها صوت فيروز جمالاً عندما تغنّت بها. فالنوتة الموسيقيّة التي كتب عنها المتخصّص في التأليف الموسيقي البحريني عصام الجودر ضمن مقال بعنوان “مقر القمر في أغاني السهر عند الرحابنة وفيروز” في الصفحة 112 من الكتاب، تعبّر أصدق تعيبر عن علاقة حضور الصوت الفيروزيّ المهيب وسحر ضوء القمر: “ويبدأ اللّحن في أغنية (طلع القمر) بغناء فيروز من المنطقة المنخفضة، غير أنّنا نلاحظ، من الناحية التعبيريّة، أنّ القمر يصعد نغمة رابعة وهي (صول) عند كلمة (طلع) وكأنّه يعبّر عن الطلوع نحو الأعلى، ومع ذلك فإنّ القمر يبقى ثابتاً عند هذه النغمة..”
تأرجح الفجر على أهداب صوتها، وهل لغير صوتها أهداب، تنفرج أسارير مع غداة رعيان الجبال، ومع البحّارة التي تردد أغانيها مع الزبد في هجعة الليل الأخيرة؟ فقد عبّر الباحث والأكاديمي اللّبناني نادر سراج عن هذه الصور البديعة ضمن مقال بعنوان “العالم الرّحباني المبتدَع والمخيال الفيروزي الساحر” في الصفحة 121: “في هدأة اللّيل ومع انبلاج الفجر تتهادى إلى أذهاننا مجازاتٌ منحوتة من معين الطبيعة اللّبنانيّة مٌسبكةُ الصّنع، تتدافع كلماتها بل دوالُها ودالّاتها في المساحة الصوتيّة لفيروز.”
عروة الشرق اشتاقت إلى زرّ رحل ولم يعد، وحاولت فيروز جمعهما في أغاني العودة. فقد كتب الروائي والناقد السوري نبيل سليمان في مقال بعنوان “الدلالات والمفاعيل القوميّة لأغاني فيروز في بلاد الشام” في الصفحة 137 من الكتاب: “…لكنْ بين الفيروزيّات الفلسطينيّة ما صار عروة الزمان مثل (القدس العتيقة) التي غنّتها فيروز بعد زيارة القدس مع الرحبانيّين في العام 1964…”
الذي هُجّر قسراً من فلسطين، لجأ طوعياً إلى صوت فيروز الصادح في شوارع المدن الفلسطينيّة وموانئها، كي لا يهجره الحنين في آخر العمر. فالناقد والباحث الفلسطيني فيصل درّاج لم يغادره اللّجوء، وكان لرهبة أغاني العودة حنين في أضلعه حين كتب في مطلع مقاله “السيّدة فيروز والولد الفلسطينيّ” في الصفحة 142: “لم أنس أغنية فيروز المنسوجة من النّغم والحلم والأمل، استقرّت في الروح ولازمتني في أطوار العمر المختلفة، منذ كنت صبيّاً لاجئاً إلى أن غدوت شيخاً، لم يغادره اللّجوء.”
هناك دهر لا يريد الرحيل عن قدسيّة المدن، لكنّ الزمان رحل منها رغماً عنها، فأعاده صوت فيروز إلى فضائها، ليندمج مع حلم العودة علّ هذا الحلم يتحقق. “التشديد على أنّ فيروز ذاهبة لتصلّي في القدس، فيه روح التأكيد على أنّ المكان قائم في الحاضر، وليس شأناً ماضوياً البتّة…” هذا ما ورد في مقال بعنوان “لن يُقفل باب مدينتنا” للمؤرّخ والكاتب الفلسطيني جوني منصور في الصفحة 147 من الكتاب.
“صوت بنات الكورال ورجالها والصوت الفردي (فيروز) في نسيج بوليفونيّ يُكثّف النسيج الموسيقيّ ليوصله إلى نهاية الأغنية- المغنّاة”، أنه قول للمؤرّخ والناقد الموسيقي اللبناني فيكتور سحّاب ضمن مقال في الصفحة 163 بعنوان “لفيروز أيضاً ثنائيّتها في تعبيرها الغنائيّ الدراميّ”. إنّ اختلاط الأصوات بوليفونياً يعطي للمتلّقي سحراً خاصاً، من خامة صوت متميّز عن أصوات الجوق، فهو كالسكّر يجعل مزيج الأصوات متكاملاً حلواً خدمة للإصغاء.
هل يمكن أن تتخيّلوا، بأنّ الأيقونة الغنائية اللّبنانيّة قد قاصصتها الحكومة اللّبنانيّة!!! فقد ورد في مقال بعنوان “فيروز.. قوّة لبنان الناعمة” للشاعر والكاتب اللّبناني محمّد علي فرحات في الصفحة 170 من الكتاب: “وكذلك استقبل الرئيس التونسي الحبيب بو رقيبة الفنّانة اللّبنانيّة، وكان الاستقبال تقديراً لها وتفهّماً لموقفها بالامتناع عن الغناء محتجّة على تغيير موعد الحفلة التي كان سيحضرها الرئيس التونسي عام 1975 حين كان يزور بيروت، ورافضة (اللعب بوقتها). وقد قاصصتها الحكومة اللّبنانيّة في حينه بمنع بث أغانيها في الإذاعة لمدّة سبعة أشهر.”
صوت فيروز، حبل ضوء في خدر الصلاة، تمتزج ذرّاته عفاف حبّ يرنو إلى غوى الآمال أنشودة تمسك أنامل الغمام فوق قُبَلِ الأديان. لذلك كتب عميد كليّة الموسيقى في جامعة الروح القدس- الكسليك الأب اللّبناني بديع الحاج في الصفحة 180 من الكتاب، ضمن مقال بعنوان “فيروز، صوتٌ يدعوإلى الصلاة”: “وفي (غنيّت مكّة) تطلب من قارئ القرآن بأن يصلّي معها.”
لا لقاء بين الآلهة والبشر بحضور الصوت الفيروزيّ، بل حميميّة عناق وحضور لبهاء القمر وانسلاخ العيون عن شرودها، عندما يتراءى الوجد في صحو الحضور المهيب عل أدراج القلاع التاريخيّة. هل هذا ما قالته الناقدة المسرحيّة السوريّة في مقالها “فيروز على خشبة المسرح” في الصفحة 186 من الكتاب؟: “وفي وسط هذه الثنائيّة البنيويّة تقف الشخصيّة الدراميّة التي تمثّلها فيروز في المكان الفاصل الذي يقع على الحدّ الفاصل بين النقيضين… وهي البعلبكيّة على أدراج المعبد مكان لقاء الآلهة بالبشر.”
غنّت فيروز لمدائن دثرها شوق السلام بعد عزٍّ، وكان صوتها يصدح في فضاءات تحدّها أنوار الشمس. فقد جاء في مقال الكاتب البحريني غسّان الشهابي ضمن مقال بعنوان “بناء الأيقونة.. فيروز في شخصيّاتها المسرحية” في الصفحة 192 من الكتاب: “غنّت فيروز لمصر (مصر عادت شمسك الذهب) و(شط اسكندريّة)، وللشام (يا شام عاد الصيف)، وعمّان، ومكّة، والقدس، الأمر الذي رصّع صدور تلك الدول والعواصم التي تبقى بينما زعماؤها يرحلون، وأخزابها تتغيّر، والموازين تنقلب، وتبقى أغنية فيروز حيّة خارج حدود الزمن.”
في رحلة السينما قيل الكثير منذ فجر صناعتها، وأرهقت كلمات كثيرة في صفحات الكتب، وتنوّع حضور القصص بين مختلف المسمّيات: الوجوديّ والفكري والفلسفيّ والخيالي… ولعلنا لا نبالغ إن قلنا أنّ ثلاثيّة فيروز السينمائيّة هي موضوع أثير، ينكشف على كثير من الرؤى الروحية، بما تمتاز من بساطة قصصها وسحر حضور أبطالها وجمال الصوت الفيروزيّ. فقد جاء في الصفحة 200 من الكتاب على لسان الكاتب والناقد السينمائيّ المغربيّ سليمان الحقيوي تحت عنوان “ثلاثيّة فيروز السينمائيّة”: “لكن ثلاثيتها استطاعت أن تجد طريقها الخاصّ إلى النجاح، بسبب خصوصيّة قصصها أوّلاً، ثمّ بسبب وجود فيروز كصوت وكأداء ثانياً”.
أمّا الكاتب والإعلامي البحريني حسن مدن فقد دخل إلى قلوب عشاق الصوت الفيروزيّ الملائكي حين قال في مقال له ورد في الصفحة 207 من الكتاب تحت عنوان “فيروز في الخليج العربي”: “ونظنّ أنّ في قلب كلّ مواطن عربيّ مساحة ضوء لفيروز التي أحالت أوقاتنا إلى مشاوير من الهناء…”
ومن أطول مقال بعنوان “فيروز في الذاكرة العميقة لأم كلثوم الهند” للمحرر في مؤسسة الفكر العربي أحمد فرحات نقتطف من الصفحة 247: “هكذا فصَوتها الذهبيّ الساحر وكلّي الملاءة، يُشكّل لوحده مؤسّسة إبداعيّة سياديّة مستقلّة، من شأنها أن تمنح، وباستمرار، الحضور التشريفي المسبّق للكلمة المغنّاة واللحن المُصاحب.. لا العكس.” ذاهباً بذلك إلى قدرة العطاء لدى السيّدة فيروز، وإصرارها على نشر الحبّ، في حقول الجمال.
كتب الكاتب والناشر اللّبناني سليمان بختي ضمن مقال بعنوان “فيروز:من حديث البدايات” في الصفحة 325 من الكتاب: “… هذا اللّقاء على ما يبدو هو الذي جعل من إبداعات الأخوين رحباني فضاءً رحباً وملوّناً وخلّاباً في صوت فيروز، وطريقاً ملكيّا إلى النجوم.” فالسيّدة فيروز قد طبّقت بطريقة ربّانيّة قانون الكيميائي “لافوازيي”، الذي يؤكّد على تحوّل المواد المتفاعلة كليّاً إلى مواد أخرى. فعندما يندمج صوتها الذي لم يستطع أي باحث تحديد مكانته، بالشعور الإنساني عند الجمهور، يتحوّل المكان إلى روحٍ صاعدة إلى العلى تمجد الربّ القدير.
هذا الصوت المتدفق من الأبد عند لحظة الانفجار العظيم، والقادم إلى الحاضر ليحملنا معه إلى أزلٍ من دون حدود، هو صوت الأيقونيّة اللّبنانيّة التي تدعى فيروز.