
كتب / ياسر عبد الرحمن
“حفل التذوق” للكاتبة هايدي فاروق – هو عنوان مفتوح الدلالة، قدم الكثير من المعاني الغير مباشرة للقارئ، وطرح العديد من الأسئلة المنطقية، فهل المحرومين لهم قدرة أصلا على التذوق؟ وكيف يحدد إنسان مذاق أشياء لا يدرك معناها؟ فكان العنوان رمزا للصراع الطبقي في الحياة، وفى الوقت ذاته رمزا مكانيا لمعركة أخيرة لبطل لم يعد لدية ما يخسره، فهذه القاعة الكبيرة والأنيقة كانت حلما يخرج به من عالمه المظلم، الى عالم مشرق ومزهر بالأماني، ومعه حبيبته التي تمثل حلمه الجميل الذي يرفض ان يتنازل عنه، وهو الشخص الذي لم يكن محظوظا لتتحقق أحلامه دفعة واحدة.

فظهرت الحبيبة كحلم زائف بدا للقارئ أنها فتاه لعوب، صائدة للفرص، وكان البطل مجرد محطة مؤقته، مرت عليها سريعا في الطريق، فقد تخلت عنه في الحفل بكل سهولة، وذهبت الى شاب من عمرها، ورغم كون البطل شاهدها تداعب الشاب وتلكزه وهو يهمس لها فتضحك، إلا أن مشاعره نحوها لم تتغير وبعد خرجهما من القاعة ظل ينادي عليها – ياقمر .. ياقمر كأنه لم يصدق ما حدث، ويعتقد أنها سوف تعود اليه،(لم يستوعب ان الفتاة باعته هكذا ببساطه).
والحقيقة ان أكثر ما يلفت نظر القارئ، هو وجود خطأ ما في شخصية الرجل الخمسيني، الذى رسمته الكاتبة بدقة العدسة الروائية، فرغم ضياع عمرة في صراعات الحياه الخاسرة، إلا أنه بدا كمراهق يعيش تجربة الحب الأول بلا خبرات سابقة، وكأنه وصل الى هذ العمر ولم يتعلم الكثير عن الحياة او يكتسب منها أي خبرات، عكس الكاتبة التي كشفت بمهارة المبدع وعين المرأة الخبيرة بأمور النساء،كل ملامح التململ والامتعاض التي ظهرت عليها.
فالفتاه قد أشاحت وجهها عنه، وابتعدت تدريجيا الى ان رصدتها عدسة الكاتبة، عبر المرآة المصقولة التي تتوسط القاعة، تتبادل الحديث مع هذا الشاب (والمرآة حملت دلالة الزيف لأنها مجرد صورة غير حقيقية) وقدمت الكاتبة جميع الأدلة الت تؤكد ان هذه الفتاه خائنة، ولا تناسبه، فهي تنتمي الى عالم مزيف ليس عالمه، فكانت تشعر بالضيق اثناء وجودها معه، عكس لحظات وجودها مع هذا الشاب تضحك وتشعربالسعادة.
وثانيا صوت الرجل الذي سأله متى كنت يا مصطفى محظوظا؟ وصوت الأم الذياظهر عدم ارتياحه لها، وقدمت له عرضا آخر (بست ستها) وقد كشف حضور الأمتفاصيل مهمة عن حياته كون البطل ضاعت سنوات شبابه ولم يحب سابقا او يتزوج لقسوة الحياة وشدة الفقر

وثالثا رآها بعينية تغادر القاعة، وخلفها الفتى ولم يصدق، وظل يناديها كحلم لا يريد ان يخسره بينما كان يعيش لحظات لا يحسد عليها، فتم طرده خارج الفندق ليخسر حلمه الأخير حرفيا فيظهر كل ليلة امام مدخل الفندق كشبح انسان مازال يتمسك بحلمة لعل حبيبته تأتى او تُفتح أمامه الأبواب الموصدة.
والحقيقة أن القصة تم كتابتها بلمسة رواية، فقد أخفت أغلب أسرارها لتكشفها للقارئ في اللحظات الأخيرة، مع تداخلات زمنية متعددة، كما أن شخصية البطل معقدة جدا وصعب توصيفها، فهو يحمل شغف الطفولة، يتصيد الأكواب من الجرسونات ويتجرعها دفعة واحدة بابتسامة، ويحمل مشاعر شخص مراهق، فيحب بكل كيانه، ويرفض التخلي عن الحبيبة حتى لو خانته، رغم التحذيرات التي أحاطت به من كل جانب.
وبدا كشخص يأس محبط خائر القوى، لا يقاوم من رفعوه ليلقوا به خارج الفندق، كما بدا في النهاية كشخص يرفض التخلي عن حلمة، وينتظر أن يفتح له الفندق ابوابهلينعم بدخول هذا العالم المبهر، وأيضا بدا كفارس مهزوم، روحه تحلق في ساحة المعركة الأخيرة، التي خسر فيها فارسته الحسناء، وحلمه الأخير، وقد يظن القارئ ان البطل رحل عن الحياة، ويرفض طيفه ترك المكان، وقد يظن أيضا ان البطل على قيد الحياة، أصيب بلوثة عقلية، وتحول إلى مشرد مجذوب لباب الفندق الذي علق بنقطة بعيدة في عقله الباطن ، تدفعه للحضور كل ليلة الى المكان، لترصده اعين قاطنو البنايات القريبة.
والحقيقة أن الكاتبة تفوقت على نفسها، في صناعة شخصية البطل، والتي اعتبرتها شخصية روائية، كما أنها أحسنت الدخول إلى النص من خلال عنوان مفتوح الدلالة،وأحسنت الخروج من خلال نهاية مؤلمة ومؤثرة، وأيضا مفتوحة الدلالة، واهم نصيحة أقدمها لأى مؤلف هي ألا يحاول تفسير النص، فيفسد جماله في أعين القارئ، فالنص يصبح ملكا للقارئ بمجرد القراءة، وهو غير مُلزم بنوايا المؤلف وأسبابه أو الرسالة التي أراد توصيلها من خلال العمل، لأنه قد تصل رسالة مختلفة لكل قارئ،تقتحم وجدانه وتلمس أوجاع خاصة داخله، فاكتب فقط أيها المؤلف نصاً جميلاً يليق بك، ودع القارئ يفسره ويتفاعل معه كيفما شاء.