أجرى الحوار هناء عبيد
شاعر من الزّمن الجميل، تخضع المفردات لأحاسيسه الجيّاشة، فتنتظم أجمل القصائد وأكثرها شاعريّة، معجم مفردات ثريّ قائم بذاته، تتناثر الكلمات منه كورود شاردة من حطام الحياة، تلامس عباراته شغاف القلب، فتبكي العيون، وتنزف القلوب
خرج من الرّيف السّوري الشماليّ، من عامودا “مدينة الشّعراء والمجانين” كما يقال ، فتوسّم البساطة والتّواضع والألفة، وحينما اغتالته الغربة، عرج على أنين الكلم، فباتت تبكي قصائده ألمًا. لم تتوانَ مفاجآت الوجع أن تباغته برحيل سكنى القلب والرّوح، ليصبح الدّمع عصير نثره وشعره ومكنون نفسه
كلّ لحظة يعيشها، نعيشها معه في قصيدة تخترق وجداننا، وتلامس أرواحنا
تحبس مشاعره الكون، فتتحرّر قصائده محمّلة بأسرار الأرض ومكنونات السّماء، ولعلّ الوضع السّياسيّ الّتي تمرّ به بلادنا العربيّة، جعلت من اليأس تربة خصبة، ليزرع فيها قصائده الحزينة كما ناي مكسور، لتنمو في الرّوح كسيف ينصل الأوصال بقسوة
خير مدافع عن اللغة العربيّة الّتي يعتبرها الهويّة والأصل والجذور، كتب القصيدة الخليليّة، واستهوته قصيدة التفعيلة والنثر
تمخّضت أحاسيسه عن ولادة دواوين شعر أثرَتْ رفوف الأدب العربيّ، منها
إنّ القرى لم تنتظرْ شهداءَها- ظلالُ الكلامِ- حرائقُ- اشتعالاتٌ- هناكَ – منذُ دهرٍ وثانيتيْنِ
حتى نكون أقرب إلى الشاعر جميل داري وقصائده التي تلامس الوجدان، كان لا بدّ لنا من إجراء حوار معه، لننهل من وافر علمه وأدبه
ـ الشاعر جميل داري، عرّفنا بنفسك بالقدر الذي تريد
أتيت إلى هذه الدنيا ذات يوم تعيس من أيام شتاء1953 أمّا برجي فقد كان مائلًا وموشكًا على السّقوط ، لكنّي بقيت، وما زلت أقاوم هذا السّقوط بكلّ أنواعه ومعانيه ، ووجدت نفسي طفلًا فقيرًا حالمًا في بلدتي التّرابيّة عامودا التي لها عدة ألقاب منها: مدينة الشّعراء والمجانين، وبلد المليون شاعر
في بداية المرحلة الإعداديّة وجدتني أجنح إلى قراءة الشّعر وحفظه من خلال المناهج الدراسيّة ، ثمّوقعتْ من الغيب بين يديّ قصائد لشعراء سحروني بلغتهم التي تشبه السماء، ومن هنا بدأ حبّي للأزرق ثم للأخضر ، ثمّ لكلّ ألوان قوس قزح ، بحيث لم أكن أفرّق بين أنواع الشّعر منذ يفاعتي الأولى، فكلّ كلام جميل يسحرني، ويوقظ فيّ هواجس هاجعة هو الشّعر أكان نظمًا أم نثرًا، فأنا لا أؤمن بالقواعد الصّارمة في الأدب وفي الحياة ، لذلك أحببت بوشكين ورامبو كما المتنبّي ومحمود درويش ، فهم ومن على شاكلتهم إخوتي وأحبابي ، لأنّ لهم لغة واحدة، هي لغة الفنّ والإبداع والجمال، فحياة دون فنّ خاوية أولى بالأنعام والهوام
إنّ الحديث عن البدايات طويل لا ينتهي، وربما الأمر احتاج إلى رواية تكاسلت عن تدوينها حتى هذه اللحظة
ـ كثيرون كتبوا الشّعر ونظموا القوافي، لكن هذا ليس بأمر كافٍ لولادة شاعر، من هو الشّاعر برأيك؟ وهل يولد الإنسان شاعرًا؟ أم أنّ المثابرة على النّهل من بحر الشّعر تصنع شاعرًا؟
ذكرتِني بقول عميق لمحمود درويش ” لا أعرف ما هو الشّعر ، لكنّي أعرف ما ليس شعرًا، ما ليس شعرًا هو ما لا يؤثّر بي، لا يهزّني
طبعًا الشّعر موهبة قبل كلّ شيء ، ثمّ تمرّن هذه الموهبة حتى تصقل، وتظلّ على قيد الحياة ، فكثير من المواهب ضحلة أو خلّبيّة، وما استمرارها في الكتابة إلّا عزف نشاز، وإزعاج للذائقة السليمة
الشّاعر الموهوب نفسه قد يقع في مطبّات،فيتراجع عن مستواه العالي، ونادرون من يستمرّون حتى النهاية، كما هو الحال لدى محمود درويش الذي لم يكرّر نفسه، ولن يتكرّر
تتنوّع المواهب عند البشر، كما تتعدّد أنواع البيئة والتربة، فهناك الصحراء والجبل والسهل والبحر ،ولكلّ منها نكهتها الخاصّة، كذلك جماليّة الشّعر تكمن في هذا التنوّع الجميل كتنوّع الألوان والأزهار ، وما علينا إلّا أن نختار ما يلائم أرواحنا وأذواقنا دون أن نتّهم الآخر أو يتّهمنا، فالاختلاف في الآراء هنا لا يفسد للشّعر قضية. علما أنّ الكثير ممّن يظنّ نفسه شاعرًا يُلغي كلّ مَن لا يسير على صراطه المستقيم، وكأنّ الشّعر عزبة خاصّة به، وغالبًا ما تكون هذه العزبة فارغة إلّا من بقراتٍ عجافٍ، ودجاجات ربابة العشر، وديكها المبحوح الصّوت
ـ متى اكتشفت موهبتك الشعرية ؟ وهل كان للظّروف التي عشتها دورها في ظهور هذه الموهبة؟
اكتشفت موهبتي الشّعرية بوضوح منذ المرحلة الإعداديّة ،حيث تعرّفت إلى شعر محمود درويش وآخرين، ثمّ تعمقت الموهبة في المرحلة الثانويّة، حيث كان مقرّرا علينا مجموعة نصوص لشعراء من عصور مختلفة ،وقد قمت بمعارضة قصيدة مالك بن الريب في رثاء نفسه، وما زلت أذكر بيتين لي
كأنّ دياري أصبحَتْ بعدَ حبّيا سوادَليالٍ أو خطوبَ العواديا
دعوتُكَ يا ربّي نهارًا لياليا لترحمَ أشجاني ومأساةَ حاليا
كما عارضت قصيدة تفعيلة لسميح القاسم يقول فيها
يا عدوّ الشمسِ.. لكنْ لن أساومْ
وإلى آخرِ نبضٍ في عروقي سأقاومْ
أقول فيها
مثلما يهطلُ غيثٌ في أراضٍ قاحلاتِ
مثلما تطبعُ أمٌّ لفطيمٍ قبلاتِ
هكذا أهوى بلادي
منذ تلك المرحلة السحيقة لم أفرّق بين الشّعر العمودي وشعر التفعيلة وكتبتهما إلى يومنا هذا
ما جعلني أقف بإعجاب أمام التفعيلة قصيدة “أنشودة المطر” للسيّاب، كما وقفت بإعجاب أمام ” تنويمة الجياع” للجواهريّ
أمّا الظروف فلم تكن مشجّعة على الإبداع في عائلة فقيرة وأمّيّة كمعظم العائلات التي كانت تقضي ليلها أمام مصباح الكاز، ولا تعرف كتابا أو مجلّة أو جريدة
هي الإرادة فقط جعلتني أبحث عن ضالّتي هنا وهناك حتى نهاية المرحلة الثانويّة ،وفي الفترة الجامعيّة أصبح الحصول على دواوين الشّعراء أسهل، علمًا أنّي درست اللغة العربيّة في جامعة حلب من 1974 حتى 1978 دون دوام إلّا في فترة الامتحانات، فقد أتيح لي من خلال المنهاج الجامعيّ الاطّلاع على الشّعر العربيّ الجاهليّ والإسلاميّ والعباسيّ والأندلسيّ والمعاصر، إضافة إلى التعرّف إلى إبداعات كبار الكتّاب كطه حسين وتوفيق الحكيم والمازني ونعيمة وجبران وآخرين كثيرين
تختلف الآراء في تجربتي الشعرية، فالحداثيّون يرونني شاعرًا تقليديًّا، لأني كتبت الموزون،والتقليديّون يرونني حداثيًّا، لأنّي كتبت التفعيلة والنثر، وكلّ طرف يظنّ أنّه يزعجني برأيه، في الوقت الذي أغبط نفسي كوني أمارس أمميّة الشّعر- إذا صحّ التّعبير- فلا فرق بين قوميّاته الثلاث، وشعوبه وقبائله الكثيرة ، لا أحبّ شعر الحديقة الصناعيّة التي يشرف عليها بستانيّ حاذق، فيرتّب ويشذّب ويجمّل حتى يضفي عليها جمالًا صناعيًّا، لكنّي أحبّ شعر الغابة العفويّة بما فيها من فوضى ومجاهيل وأنفاق ،فجماليّة الشّعر تكمن في المغامرة والمعارضة لا الحذر والموافقة
ـ كيف كتبت الوطن في أشعارك؟
تكون وعيي السياسيّ والوطنيّ والاجتماعيّ في فترة مبكّرة من حياتي، وتعمّق خلال المرحلة الثانويّة ،كان الوطن عندي يعني التطلّع إلى العدالة المنشودة،ونقد الواقع الطبقيّ الآثم الأليم، حيث قلّة ترتع في نعيم، وكثرة تتلوّى في الجحيم، ومن هنا لم أكن على وفاق مع العالم الفارض نفسه بقانون القوّة ، وكتبت مقالات وقصائد أتغنّى بالوطن الحلم الذي أريد
كنت أكره أن يراق الوطن باسم الوطن من خلال شعارات يرفعها ناس يعني الوطن لديهم المكاسب الانتهازية ، الوطن عندي كان وما زال مزارًا مقدّسا،وعملَا في سبيله، ليرقى إلى مصاف العالم الرّاقي الذي ننبهر به، ونكفّره، ونتطفّل عليه
ـ ما مكان المرأة ومكانتها في أشعارك؟
المرأة هي الوجه الجميل للحياة، وحياة خالية منها يباب وعدم ، من هنا أقبلت على قراءة الشعر الغزليّ منذ عنترة إلى ديك الجن إلى نزار قباني، والاستماع إلى الأغاني العاطفية لفريد الأطرش وعبدالوهاب وأمّ كلثوم وآخرين ، وأدليت بدلوي في الكتابة عن المرأة الحلم، وكلّ ذلك مدوّن في ديواني الأول الصادر 1984 بعنوان “السّفرُ إلى عينيكِ بعدَ المنفى” ثم في باقي الدواوين، وفيما لم يُطبع بعد
ثمّ تعمّقت تجربتي الأدبيّة عندما أصبحت مدرّسا للغة العربيّة في بلدتي الكرديّة عامودا، وقد أصدرت ديوانين عامي 1993 و1995 وهما “إنّ القرى لم تنتظرْ شهداءَها” و” ظلالُ الكلامِ” وقد صدرا عن اتّحاد الكتّابِ العربِ في سوريا
ـ هل تنتمي إلى أيّ مؤسّسة أدبيّة؟ وإن كان نعم، حدثنا عن تجربتك، وماذا يمكن للمؤسّسات الأدبيّة أن تضيف للشاعر؟
لا أنتمي إلى أيّ مؤسّسة أدبيّة، حيث أني لم أنتسب إلى اتّحاد الكتاب لا العرب ولا الكرد، لأنّ هذه الاتحادات لا تقدّم ولا تؤخّر بل ربما تؤخّر لا سيما أنّ المشرفين عليها أنصاف كتّاب وأرباعهم، ولا قيمة إنسانيّة أو إبداعيّة في كتاباتهم التي لا تقول شيئا . وقناعتي هذه تزداد يومًا بعد يوم، وقد أثبتت الأيام صحّة ما ذهبت إليه
ـ ما رأيك بالحركة الأدبيّة حاليًّا خاصّة بعد انتشار وسائل الاتّصال الاجتماعيّ السريعة؟
الحركة الأدبيّة تسير في مسارها المتعرّج، حيث يظهر على الساحة الأدبية أشباه أدباء نشطون في العلاقات مع الإعلام ووسائل التواصل الأخرى، أمّا الفئة المشعّة فتُهمَل، ولا يُعطى لها المجال في الظهور والانتشار.أمّا الفيس بوك فهو كحقل عشوائي فيه القمح والزؤان والأعناب والهالوك، فقد تجرّأ كلّ متعلّم على أن يجعل من نفسه شاعرًا وكاتبًا، ولكن كلّ ذلك جعجعة لا طحن وراءها . والزّمن كفيل بالغربلة دائما
ـ هل تعتقد أنّ الساحة الأدبيّة حاليًّا تحتوي على نقّاد على قدر من المسؤوليّة؟ ومن هذا المنطلق كيف ترى مستقبل الشعر من حيث القيمة والجودة والمتانة ؟
النقد البنّاء الجاد قليل في حياتنا الأدبيّة، إذا ما قارناه بمرحلة بداية القرن العشرين حتى منتصفه، لكنّه تراجع في العقود الأخيرة، وصار نقدا صحفيًّا شلليًّا يرفع الوضيع، ويبقي الرفيع مهمّشا، بعيدا عن الأضواء، ولا أدلّ على ذلك من شهادات التقدير لكتّاب لا يمتّون للكتابة الإبداعية بصلة. وهذه الدعوات التي فقدت معناها وبريقها في عالم غير سويّ، اختلط فيه الحابل بالنابل، وضاعت فيه الطّاسة
مثل هذا الكتابات ونقدها ليس لها قيمة فنّيّة،وسوف تزول بزوال الأسباب التي أوجدتها، والزّمن طال أو قصر كفيل بالغربلة
ـ ما رأيك بقصيدة النثر التي تحرّرت من القافية والتفعيلة والوزن، وباتت تزاحم القصيدة التقليديّة ؟ وهل أنت مع تصنيفها تحت خانة الشعر ؟
قصيدة النثر – بغض النظر عن التسمية- فنٌّ جميل، وقد يضاهي الشّعر الموزون إذا كان كاتبها موهوبًا وقادرًا على اجتراح اللغة الجديدة مع الصور المبتكرة ،أنا نفسي أكتب هذا النمط من الكتابة،والخلاف حول نسبها إلى الشّعر لا يهمّني كثيرًا، فزبانية القديم وأزلامه لا يرضون إلا بما كان رتيبًا ومملًّا ومكرّرًا ومعادًا، أنا أطرد نسبة عالية مما يكتب نظمًا من دائرة الشّعر، فالشّعر هي حالة روحيّةصوفيّة انصهاريّة، نعبر عنها بالطريقة التي تفرض نفسها علينا ، أما التفعيلات الخليليّة فلم تكن يوما جواز مرور شرعيّ إلى القصيدة الحلم ، فكم من شعراء كبار هم ناظمون في الكثير ممّا يجودون به علينا
قصدي لم يعد الوزن شرطًا من شروط الشّعريّة،فقد يتوفّر الشّعر في النثر أكثر من النظم . وقد أسمع الشّعر من سرب عصافير على شجرة في الحوش القريب أو في الغابة البعيدة ، كما أراها في سنابل القمح التي يراقصها النسيم وفي الغيوم الحبلى بمطر عظيم
الشّعر هو الإنسان حاملًا قلبه المشعّ في ظلام العالم
ـ من هو الشّاعر النّاجح من وجهة نظرك؟
الشّاعر النّاجح هو الذي يذهب إليه الشّعر لا الذي يذهب إلى الشّعر مستجديًا بنات الخيال ، وهو الذي يكون على اطّلاع واسع على الشّعر العربيّ قديما وحديثا، وكذلك على الشّعر العالميّ ، فشاعر اليوم غير شاعر الأمس، إنّه يحتاج إلى تنمية ثقافته، ليكون قادرًا أن يصبح ناقد نفسه، فالشّاعر الناجح ناقد عليم بشعره وشعر غيره
الشاعر النّاجح هو الذي يكون الشّعر من صميم دمه وخلاياه، فهو يتنفّس الشّعر، ويخلص له من خلال تطويره أساليبه من لغة وصورة وحدس
ـ ما هي مقاييس القصيدة الناجحة ؟ ومن برأيك الحكم الحقيقيّ لنجاح القصيدة؟
المقاييس هي أن تكون قصيدة شعريّة لا خواطر مبعثرة أو نظمًا فارغًا ممجوجًا، وهي التي تخلو من ضعف اللغة وفقرها، ومن أخطاء النحو والإملاء والتقليد
والحكم الحقيقيّ هم الشّعراء والنقّاد المشهود لهم بالذائقة العميقة، والرّوح النقديّة المتمرّسة بالحياة وفنون الكلام
وقد أعدّل جوابي السابق، وأقول: ليس للشعر مقاييس ثابتة، وإن وجدت فستكون ناقصة أو متناقضة مع نفسها ، فلكلّ شاعر مقياسه الخاصّ، وعالمه الخاصّ، وحياته الخاصّة، وحبّه الخاصّ، وموته الخاصّ .فلا عموميّة في الشّعر، لأنّه حديث الرّوح، والرّوح من أخصّ خصوصيّات الإنسان
ـ هناك من يعشق لقب شاعر، إذ بتنا نلاحظ في الآونة الأخيرة كثيرًا من الكتّاب يلصقون لقب شاعر أمام اسمهم رغم أن لا علاقة لهم بالشعر؟ هل ترى أنّ اللقب يعطي قيمة لصاحبه؟ وهل تعتقد أنّ هناك مميّزاتٍ للشّاعر من حيث الإحساس والمشاعر والعاطفة؟
اللقب لا يقدّم ولا يؤخّر، فالمهمّ هو الأثر الجميل الذي يتركه في النّفس كاتب القصيدة، ولو كانت مجرّدة من اسم صاحبها ، وعشّاق الألقاب واهمون أنّ اللقب يشفع لهم، ولا يكتفون بشاعر بل بألقاب ما أنزل الله بها من سلطان
مثلا لقب “أمير الشعراء” لأحمد شوقي لا يعني لي شيئًا بقدر ما يعني لي ما كتبه شوقي نفسه ،فلديه الكثير من النظم، والقليل من الشعر، لأنّي لا أرى فيه إلّا مقلّدا كبيرًا لمن سبقه من شعراء العصور السابقة
فهو في معارضاته لا يصل إلى مستوى من يعارضهم، ومن هنا نقول عنه: شاعر كلاسيكيّ أو اتّباعيّ أو تقليديّ
إذا كانت نظرتي هكذا للأمير شوقي، وهو شاعر كبير بمنظار الماضويّين فكيف تتصوّرين رأيي في أمراء الشّعر المزيّفين الذين ينالون بالتصويت أصوات مَن لا يمتّون للشّعر بصلة
لو كنتُ أعرفُ ما هو الشِّعرُ لسهرْتُ حتى يطلعَ الفجرُ
وأنا أعدُّ خسائري أبداً فأهمُّ ما عندي هو الخُسْرُ
الشّعرُ عندي نجمةٌ خمدَتْ أحلى مطاعمِها هو المرُّ
والشّعرُ سرٌّ لا يُباحُ بهِ فإذا أبيحَ تألَّمَ السِّرُّ
ـ هل توافق على مقولة إنّ إصدار الدواوين هو إثبات للذات أولًا وأخيرًا؟
طباعة الدواوين لا تصنع شاعرًا مهما كثر عددها، فالعبرة ليست في الطباعة بل في وجود الشّعر الحقيقيّ الذي يتّفق عليه كبار الشّعراء والنّقاد ، قرأت الكثير من الدواوين الشّعريّة التي لا علاقة لها بالشّعر، وفيها مقدّمات لكتّاب كبار، وكأنّ مقدمة الكاتب الكبير ستخدعنا نحن المهووسين بالقصيدة التي توقظنا ونحن نيام، أمّا التي تتثاءب فتعدينا فلتتركنا نغطّ في نومنا هانئين مرتاحين من شرّ ما خُلق .ما هي العوامل التي أدّت إلى الحدّ من انتشار الكتاب الورقيّ
ـ في عالمنا العربيّ، هل تعتقد بأنّ وسائل الاتصال الحديثة التي سهلت الحصول على النسخ المجانيّة إحدى هذه العوامل؟
ربما كان لوسائل الاتّصال دور في هذا الحدّ، ولكنّي أرى في المعارض الكثير من الكتب الجديدة في مجالات مختلفة، ولكن حركة الشّراء تكون قليلة عامّة ،طبعا بعض العيب في الكاتب نفسه، والبعض الآخر في القارئ ، فنسبة القرّاء في بلادنا قليلة جدًّا، وما يباع من أشهر الكتب لا يتعدّى بضعة آلاف لمحفوظ ودرويش مثلًا، فما بالك بي بجميل داري الذي لا يباع من كتبي إلا بالعشرات ومع ذلك هناك ركض محموم لدى صغار الكتبة في طباعة كتبهم، ووضعها على بعضها في بيوتهم على شكل كراكيب زائد فالمهمّ فلان عنده ديوان، وعلّان عنده عشرون وخمسون وهكذا
ـ أيّ أنواع الأدب يستحوذ على اهتمامك بعد الشّعر طبعًا،ولماذا؟
طبعا الشّعر أولًا ثمّ الرواية ثمّ المقالة الأدبيّة والقصّة، وباقي الأنواع تأتي أقلّ أهميّة، أمّا لماذا فلأنّ الرّواية سرد لتجارب إنسانيّة نرى في بعضها ظلالًا لنا وصورًا ، في الرواية تتعمّق تجربتنا وحكمتنا ولا سيما مع الكتّاب الكبار، وعن نفسي تأثّرت كثيرا بكتابات محفوظ والحكيم ومنيف ومينة وغيرهم
ـ أيّ أصناف الشّعر الأقرب الى روحك؟
بدأت تقليديًّا وتفعيليًّا معًا في المرحلة الثانويّة،وكنت خلالها أكتب نصوصا نثريّة بغض النظر عن أنّها شعر أو لا، وما زالت هذه العادة، لم أبتعد عنها قيد نملة أو أنملة ، ومن تجربتي المتواضعة أدركت أنّ القصيدة العموديّة ذات أفق مغلق، وأكتبها بكلّ يسر وسهولة بما لدي من ذخيرة لغوية وتجربة عميقة، والأقرب إلى روحي قصيدة التفعيلة التي هي أقرب إلى قصيدة النثر منها إلى القصيدة التقليديّة، ذلك لأنّ ذوقي لم يعد يتحمّل التكرار، فإذا حننتُ إلى القديم أقرأ المعلقات والمتنبّي، فهي تغنيني عن كلّ ما يُكتب من شعر تقليديّ لا ماءَ فيه ولا رواء
ـ نعيش في عصر الرواية، هل توافق على هذه المقولة؟ وهل تعتقد أنّ الشّعر قد فقد بريقه أم أنّه منافس قويّ يقف بصلابة أمام أنواع الأدب الأخرى؟
الرواية العربيّة في تطور مستمرّ، والمتطفّلون عليها أقلّ من الشّعر، لذلك حافظت على احترامها لنفسها ، غير أنّي لا أعترف بالمصطلحات والموازنات هنا، فهناك عشّاق الرواية، وهناك عشّاق الشّعر، واذا كان الناس يميلون إلى قراءة الرواية فلأن النفس الإنسانيّة تميل إلى سماع القصص التي ليس لها مجال واسع في المناهج المدرسيّة
الرواية في تطوّر، ولكنّها لا تسبق الشّعر بل ربما هما فرسا رهان في مضمار لا يرتاده إلّا القليل من الجمهور الذوّاق لهذا أو ذاك
عصرنا هو عصر الحروب والتوحّش والفساد قبل كلّ شيء
ـ هل كان لشاعر ما تأثيره عليك، وعلى نهجك في مسيرتك الشعريّة؟
الكثير من الشّعراء تأثّرت بهم، وأحببت شعرهم من المعلّقات إلى آخر شاعر شابّ، وليس عندي تفضيل شاعر على آخر بل قصيدة على أخرى ما عدا شاعرين هما مثلي الأعلى فنّيًّا هما المتنبّي في العموديّ ودرويش في التفعيليّ، أما النثريّ فلا، لأنّ هناك نصوصًا جميلة مبعثرة لهذا الشّاعر أو ذاك
قصيدة النثر صعبة، ومع ذلك يتنطّع لها الغادي والرائح
ـ كلّ تجربة أليمة نعيشها تترك ندبًا عميقًا في أرواحنا، هل عشت تجارب خاصّة رسمت معالم قصائدك؟
حتى سنة 2011 كان هناك تعبير عامّ عن الألم والأمل فيما أكتب، ولكن أصعب التجارب كانت بعد هذا التاريخ ولا سيما الحرب في سوريّا ودمارها ثمّ وفاة زوجتي وبعدها وفاة الوالدين . كلّ هذه الأمور جعلتني أكتب بغزارة وبشكل شبه يوميّ، ولا أعدّ كلّ ما أكتب شعرًا، فعندما أريد طباعة ديوان أجد صعوبة بالغة في انتقاء ما أريد، لأني قاس وصارم جدًّا مع نفسي إلى حدّ أنّي أراني غالبًا بعيدًا عن الشّعر بعدي عن شيكاغو، شعاري هو بيتي التالي
أمرُّ بي لا أراني مرورَ أعمى بثانِ
ـ ما أحبّ دواوينك إلى قلبك؟
إن القرى لم تنتظر شهداءها الذي طبع عن اتّحاد الكتّاب العرب في سورية عام 1994. وهو ديوان يضمّ مجموعة من التقليديّ والتفعيليّ، وقد تكون نسبة الشّعر فيه أقلّ من 50 بالمئة، وهذه نسبة عالية
ـ كلمة تحبّ توجيهها إلى القرّاء
أشكر القرّاء على تحملهم عناء قراءة أجوبتي التي هي غيض من فيض ممّا في النفس من آراء وهواجس ومشاعر لا يمكن التعبير عنها في هذه الحواريّة التي أجرتها مبدعتنا القديرة “هناء عبيد” فلكم ولها جزيل الشّكر وجميله
الشّاعر جميل داري، لك كلّ الشّكر على هذا اللقاء القيّم الماتع…نتمنّى لك كلّ التوفيق