من حديقة منزله حيث الأرض تفتح صدرها، لتصبح منبرا، والصخرة تعانق الفضاء لتكون منصة للكلمة، اختار الدكتور خالد غطاس أن يوقع إصداره الثالث «القصّة ما قبل الأخيرة» الصادرة عن دار عصير الكتب.
وفي رسالة حملها ان الكتابة لا تولد من القاعات الفارهة، ولا تحت الأضواء، بل من نبض الأرض، من جذور صلبة… ومن دمعة صادقة ذكرّته بتجارب أليمة عايشها تهافت اليها كل من عايش مرارة الفقد.
في القصة ما قبل الأخيرة رحلة تصالح مع فكرة الفقد، حيث خاضها بطل القصة« ياسر» في عوالم ما بين الواقع والخيال، حيث التقى شخوصا تركت بصمتها في فكره، يأخذ الكاتب القارئ بلغة سلسة وبسيطة لا يغريها بلاغة اللغة ولا عِقد الحبكة الروائية، يترافق مع القارئ في رحلته بلسان المفكر الذي قارب ان يختبر الغياب…ليستيقظ بصحوة واحدة تذكّره بقدرة الخالق…
يحمل غطاس في مجموعته الأخيرة سيلا من الرسائل التي تزاوج بين الإرشاد النفسي- التربوي و البعد الفلسفي القيمي، بدءا من معادلة السلطة بين الأهل و الأبناء، مفسرا ان السلطة تنتقل تدريجيا مع مرور الزمن، وهي معادلة واقعية تتأثر بقدرة الاهل على التسليم السلمي الراضي..
ثم يقدم طرحا آخرا لفكرة ترتبط بجذور مشاعرنا مفادها اننا لا نشتاق للأشخاص بقدر ما نشتاق الى هويتنا معهم… فالعلاقة ليست مجرّد حضور الآخر بل انعكاس صورة الذات في مرآة الآخر ويكون قد انتقل من العاطفة الى التحليل الفلسفي المرتبط بالهوية..
ولا نغفل الارشاد التربوي في رسالته الى الأهل بان يعدّوا ابناءهم ليكونوا حملة رسالة وان يتحوّلوا من متلقين سلبيين الى فاعلين ايجابيين وهذا أساس التربية التغيرية التي يراهن على استمراريتها..
وفي مقاربة وجودية يميز غطاس بين التأقلم كفعل للجوارح و الرضا كعمل داخلي قلبيّ… فالتأقلم قد يكون قاسيا او قبيحا ان لم يقرن بالرضا…
وفي رسالة أمل يذكّر بأن من يتوقف عن الحياة ينسى كيف يعيشها لذلك جاءت قصته« ما قبل الأخيرة» إشارة الى أن الحكاية الإنسانية لا تختم بالموت..
القصة ما قبل الأخيرة، ليست مجرد نص أدبي بل دليل ارشادي فلسفي يقدم للمتلقي خرائط تربوية في العلاقات و الوعي، وكأنه مرآة نرى فيها وجوهنا بعدما عبرت تجارب عايشناها او اختبرناها مع مقربين لنا…
بين صفحات الكتاب ندخل في دهاليز تسكننا، نخوضها لنكتشف ان القراءة ليست فعلا عابرا بل لقاء مع ذواتنا…
ويبقى هذا الكتاب، بدفتيه المملوءتين بالقيم والوصايا، صخرة صلبة تواجه كل الرياح، حاملة بصمتها..
رسالة للتغيير ومحاولة لتعديل مسار الدنيا….
