كنت أقرأ كتاب (مختارات من النصوص الأدبية في العصر العباسي)، حتی وصلتُ إلى قصيدة للمتنبي في هجاء كافور الأخشيدي. قرأت القصيدة بإمعان متأملة كل مفرداتها، حيث لفت انتباهی مفردة (الجَلم).
تعمقت فيها، وكررتها بصوتٍ عالٍ عدة مرات:
الجَلم، الجلم، ال جَ لَم، ال جَ… بدأ الزمان والمكان يتلاشيان أمامي، فوجدت نفسي في زقاقنا العتيق، صبية ذات السنوات السبع بشعر طويل يميل إلى الشقرة. كانت تلعب بمرح مع أطفال الحارة، كانوا يقفزون على الأدراج الحجرية أمام باب بيتها، فجلست على المدرج لتأخذ قسطا من الراحة ولتستمتع بخيوط الشمس الذهبية، وجمال قرصها في السماء. كانت تظلل عينيها، وتراقب المارة وتتسلى بالنظر إلى الغادين والرائحين من الناس في موقف مسلٍ، وكأنه مهرجان للاحتفال بعيد القمر!
كانت مشغولة جداً بذلك المنظر الممتع الذي سرح فيه خيالها . وفجأة أيقظها من هيامها صوت أبيها: بابا! بابا! تعالي، أينك؟ بابا!
نهضَت من مكانها، فذهبت مسرعة نحو أبيها، فوجدته في غرفته مُكبًا على صندوقه الخشبي القديم باحثًا عن شيء ما. عندما التفتَ نحوها، أنزل نظارته إلى حافة أنفه وتطلع إليها من فوق إطارها:
ألم تعرفي أين وضعَت أمك الجَلم؟ يجب أن يكون في الصندوق!!! منذ ساعة وأنا أبحث عنه فلم أجده.
– الجَلَم؟ لا، لم أعرف. سوف أبحث عنه٠
راحت تبحث عنه في أنحاء البيت. فتحَت أدرج المطبخ واحدة تلو الأخرى بحثًا عنه، فلم تجده!
_ لربما يكون في خزانة أمي.
قالتها في نفسها وذهبت نحو الخزانة. لم يكن هنالك. خطت خطوات نحو خزانة أخيها. وقفت وهلة امامها متمنية أن يكون فيها. فتحت الخزانة. نعم، انّه فيها،أخيرا وجدته! ركضت مبتسمة نحو أبيها ومدت يديها إليه:
_هو ذا الجلم ، وجدتُه هناك، في خزانة حسين. أدار وجهه إلیها وهو يمسح نظارته مبتسماً بدهشة، ثم وضع النظارة على عينيه: وجدتّه؟
دوى صوت ضحكته في البيت.
_هذا مقراض!
وأما أنا كنت أبحث عن الجلم…
—————————-
من أية الطُّرْقِ يأتي مثلَكَ الكَرَمُ
أينَ المَحاجِمُ يا كافُورُ وَالجَلَمُ
المتنبي صاحب هذا البيت الشعري أخذني إلى عالم الطفولة، عالم العفوية والصدق، عالم البراءة والنقاء.
فوجدتُ نفسي في أحضان لهجتي الحبيبة، تلك التي فقدت فصاحتها إثر هجمات التفريس. يد شرور وظلوم خطفت فصاحتها، فتلاشت لغتي أمام عينيَّ، تلاشت لغتي وأنا مكتوفة اليدين ومبتورة الحنجرة. تلاشت لغتنا العربية فأصبح قلبي محروقا عليها، محررروق، ككوخ متهالك يلتهمه حريق في غابة مظلمة. بكيت لها کثيرا وسوف أبكي، أبكی دما، أبكي على فصاحتها، تلك الضالة المنشودة التي غابت عنها، أبكي حتى يموع إنسان عيني مع دموعي الجارفة، أبكي وهل ينفعني مُر البكاء؟!
——————————————
أمّا معنى البيت:
من أي موروث يأتي لمثلك الكرم يا كافور، وأنت سلفك بين حجام وحلاق.
جلم: آلة يجز بها الشعر والصوف.
مقراض: ما يقرض به الثوب أو نحوه.
مازلنا نستخدم هاتين المفردتين في لهجتنا التي مازال ينعكس صداها في أرصفة سوق عكاظ…