
الرغبة في التبصص جذرًا جينيًا للفوتوغرافيا
بقلم: أميرة ناجي
قدّم الناقد التشكيلي خالد خضير الصالحي محاضرة عبر منصة (غرفة 19 الإلكترونية) بعنوان: التلصص وإمبراطورية المراقبة الشاملة، وادارتها الشاعرة اللبنانية اخلاص فرنسيس، وكانت المحاضرة واحدة من المحاضرات التي لاقت اهتمامًا استثنائيًا ليس فقط لما تضمنته من طروحات جديدة ومثيرة بل أيضًا لما حملته من قراءة فلسفية عميقة في عالم الفوتوغرافيا وعلاقته بالثقافة البصرية الحديثة .
الصالحي – المعروف بجرأته النقدية وقراءاته غير التقليدية – انطلق من فرضية جوهرية مفادها أن الفوتوغرافيا لا تنبثق فقط كفن أو تقنية بل له جذر جيني أصيل هو الرغبة في التلصص (التبصص)، وان فعل التبصص هنا ليس مجرد فعل عابر للعين بل ممارسة بدائية متجذرة في الطبيعة الإنسانية تنزع إلى اختراق الحميمي والخاص والتحديق الفضولي الذي يبتغي الامتلاك البصري أكثر مما يبتغي التواصل؛ وبهذا المعنى يرى المحاضر أن الكاميرا قد شرعنت ما كان مرفوضًا اجتماعيًا وحوّلت التبصص من فعل سري ومشبوه إلى ممارسة مشروعة تدخل في صلب الفن والذاكرة والتوثيق فإذا كان المتبصص يكتفي بالنظرة العابرة فإن المصوّر يوثّقها في صورة قابلة للتداول والتأويل لتصبح الكاميرا أداة لإنتاج أنظمة جديدة للنظر بل سلطة بصرية قائمة بذاتها.
لقد توقف الصالحي عند الإرهاصات الأولى لهذا الجذر في جهاز رسم المنظور في عصر النهضة الذي اعتمد غرفة صغيرة وثقبًا للرؤية أقرب ما يكون إلى ثقب الكاميرا الحديثة هذا الثقب لم يكن سوى تعبير مادي عن الرغبة العارمة في التلصص على العوالم المخبأة خلف الجدران وهكذا يلتقي التبصص بالفوتوغراف من جهة وبأنظمة المراقبة الشاملة من جهة أخرى حيث يتجلى المثال الأبرز في البانوبتيكون الذي ابتكره الفيلسوف والمهندس جيريمي بنتام في القرن الثامن عشر ذلك النظام المعماري الذي يتيح للحارس رؤية كل الزنازين في وقت واحد فيتجسد الضوء كأداة للرقابة والسيطرة.
وفي قراءة موازية استحضر الصالحي ما أسماه (قانون هايدغر) من كتاب أصل العمل الفني حيث يطرح الصراع الأبدي بين النقطة المضيئة والفجوة المعتمة. فالتبصص في الفوتوغرافيا هو صراع بين إرادة الكشف (ثقب الكاميرا الذي يسعى لاختراق المحرّم) وإرادة الحجب (التي تمثلها الأعراف أو الموديل أو شروط المجتمع). ومن هذا الصراع تتشكل نماذج فوتوغرافية متباينة:



أولا، الفوتوغراف الجنسي (Sexual Photography): حيث تنتصر إرادة الكشف ويغمر الضوء مناطق كانت تعد محرّمة.
ثانيا، الفوتوغراف العاري (Nude Photography): حيث تنتصر إرادة الحجب فيغلب التباين الأسود/الفحمي ليقترب من مادية اللوحة التشكيلية ويعكس روح الرسم أكثر مما يعكس فعل التوثيق.
لقد أثارت المحاضرة نقاشات ثرية وأسئلة مهمة من الحضور أجاب عنها الصالحي بإسهاب مؤكّدًا أن الفوتوغرافيا ليست مجرد ممارسة جمالية بل هي فعل ثقافي/اجتماعي/فلسفي يرتبط بالرقابة والرغبة والذاكرة وأن الكاميرا – في جوهرها – لم تُلغِ التبصص بل صاغته بلغة أكثر شرعية وتأثيرًا.
إن قراءة الصالحي تضعنا أمام رؤية جديدة للفوتوغراف كفن وكظاهرة حضارية فهو ليس حياديًا ولا بريئًا بل متورط في عمق الرغبة البشرية في النظر والسيطرة والتأويل مما يجعله في قلب النقاش الفلسفي حول الحرية الرقابة والوجود الإنساني.
