ماري القصيّفي
أتى الخريف باكرًا هذه السنة! اقتحم الصيفَ بغيمه الثقيل وهوائه الرماديّ، وهمس في أذني: أنتِ لي، ولن تكوني لسواي!
أجلس في حديقةٍ صارت الشمس تغادرها على عجل، وأراقب كيف يقصّر النهار عمرَه طوعًا، كأنّه لا يريد أن يرى أكثر مما رأى… أحزن، فيسقط حزني على ترابٍ وُعِد بربيع الحبّ وصيف العشق، لكنّ الشوك لا يشرب سوى دمع السماء حين يخرمش عينيها
يذوب ظلّي في الأرض، أنحني لأبحثَ عنه فأصير علامة استفهام ولا جواب لي
كبرت، كبرت فجأة، وغدرتْ بأحلامي طفولةٌ غادرتني حين اكتشفتُ أنّ مكانًا واحدًا لا يتّسع للحرب والحبّ… أن لا مكان لي ولا زمان ولا رفيق… وأنّني حين أنتفض على حزني ووجعي وعمري فأقصى ما يمكنني فعله هو أن أكتب… وأقسى ما يمكنني مواجهته هو أن أكون قارئتي الوحيدة
ربع عمر في سرير الوجع، وربع آخر في أتون الحرب، وربِع ثالث في خيبة الحبّ، وربع رابع في هشاشة الشعر… يا الله صار عمري مئة عام وما زلت أبحث عن طفل ألعب معه على الطريق التي لم أَحْبُ عليها يومًا، ولم أركل حجارتها، ولم أركض خلف أترابي فوق تربتها البكر… مئة عام وما زلت صغيرة يفاجئها الخريف كلّ سنة وهو يقول لها: أنتِ لي وحلم الصيف انتهى
مضى زمن اللعب، مات ناس كنت أعرفهم، رحل آخرون خلف أحلامهم، وُلد أطفال يحملون سلاحًا، انقصفت بيوت وأعمار… أحاول القفز فوق الركام فلا تساعدني رجلي… أحاول الطيران فوق دخان الحرائق فيذوب جناحي
فاجأني العمر… لا الشعر الأبيض دلّني عليه، ولا تجاعيد الوجه أنذرتني بمجيئه، ولا البقع الصغيرة السوداء فوق سطح اليد نبّهتني، ولا انقطاع الدم عن دورته القمريّة حذّرني، ولا موت الجدّين، فقط الخريف، الخريف الذي أتى هذه السنة في غير موعده، هو الذي جمع الخيبات كلّها، والأوجاع كلّها، والدموع كلّها، هو الذي لفّني بوشاحه السميك، وقال لي: أنتِ لي ولن تكوني لسواي