أورد عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، في كتابٍ له، الحكاية التالية: (مرّ أعرابي ذات يوم بمكتبة مملوءة بالكتب، فهتف قائلاً إني أعرف جميع ما في هذه المكتبة، وخلاصة ما فيها: «يا أيها الإنسان كنْ خيّراً”، أو كما نطق هو بلهجته الأعرابية: (يا ابن آدم صير خوش آدمي»).
وصف الوردي للهجة الرجل بالأعرابية، حملتني على الاعتقاد أن مفردة «خوش» التي لا يمكن أن يخلو حديث بين العراقيين دون استخدامها مراراً، هي مفردة عربية، ففعلت ما نفعله في مثل هذه الحالات، ذهبت إلى «معجم المعاني الجامع»، فوجدت المفردة، وبأكثر من نُطق، لكنها تحمل معاني أخرى غير ذاك الذي نعرفه في اللهجة العراقية العذبة، ف«خوش»، في المعجم، تعني، مثلاً، الخاصرة من الإنسان، وحين نقول «خَوَّشَ فلاناً حقّه»، فإننا نقصد نَقَصه، وحين نقول: «خَاشَ فلاناً بالرمح» نعني طعنه، وحين نريد القول هال التراب أو غيره في وعاء، نقول: خَاشَه، أما «الخاشي» فهي اسم الفاعل من خشي، ولكم أن تخالوا الفرق بين هذه المعاني كلها، وبين معنى «خوش» العراقية: «خوش آدمي» «خوش كتاب» «خوش بلد»… إلخ.
مثل أي لهجة عربية، تحمل اللهجة العراقية مفردات من حضاراتها القديمة السابقة للإسلام، دخلت في سياق التحدث وحتى الكتابة، إذا كانت بالعامية، وعلى أحد المواقع نقرأ أن في اللهجة العراقية مفردات من أصل بابلي أو فينيقي أو حتى تركماني، أما كلمة «خوش» التي تستخدم، بالمناسبة، في بعض بلدان الخليج أيضاً، كالكويت والبحرين، بنفس معناها في العراق، فيقال إن أصلها فارسي، وعلى ذمة بعض القائلين، فإنها تحمل المعنى نفسه في اللغتين التركية والكردية، وهو ما لا نستطيع الجزم به لجهلنا بهذه اللغات، ولأن الشيء بالشيء يذكر فإن كلمة «خوش» ترد، أيضاً، في تعبير دارج، يقال عادة لوصف علاقات الصداقة القوية والمتينة، فحين نقول «فلان وفلان خوش بوش»، فإننا نقصد وجود صداقة بينهما تتخطى الرسميات.
استغرقنا الحديث عن المفردة، ونسينا الحكاية التي أوردها علي الوردي عن الأعرابي الذي لخّص محتويات المكتبة المليئة بالكتب، دون أن يقرأها، والعبرة ليست في أنه لم يقرأها، وإنما في تشخيصه الصحيح لما تريد المعرفة منحه للإنسان، في أن يصبح «خوش آدمي»، بتهذيب النفس وإنضاج العقل والرقي بالذائقة، وكنت سأختم بهذا لولا أني تذكرت أن أفلام «الأكشن» الموسومة (أوشن)، والمأخوذة في النهاية من كتب أو نصوص مكتوبة، نجحت في تصوير «الأشرار» أبطالاً جذابين ومضحكين وأذكياء، يتمنى المشاهد أن ينتصروا في نهاية الفيلم، رغم أنهم يسرقون ويرتكبون الجرائم بدوافع أنانية وشريرة غايتها الثراء الشخصي.
(عن صحيفة الخليج)
(عن صحيفة الخليج)