
بقلم: كنانة حاتم عيسى
تنتقل الكتابة البكر بين الأنا الداخلية المشبعة بتجارب الحياة وبين بوح الورق الذي سيعري فكر الكاتب وأيديولوجيته ومشاعره وفلسفة حياته ومعاييره، وعندما تتشكل مرحلية الكتابة من خلال رؤية لإعلامية مميزة لها باع طويل في الكتابة الصحفية وفن صناعة الخبر، فإن العمل الأدبي يأتي قلقاً، ومختلفاً وخارج أفق التوقعات.
نجد في مجموعة خوف بارد أن القصص تتبدل وتتغير بأنساقها الثقافية وموضوعاتها وثيماتها لتشكل التجربة العميقة لعوالم الداخل المتشابكة، فنلمح التجديد في طرح مواضيع التغريب واللانتماء و فقدان الهوية، والنظرة لمفاهيم الجنوسة والفصل الجندري قيمياً بشكل معاصر و ما بعد حداثي لا يخلو من أسلبة متنوعة تتضمن الغرائبية، والسريالية والقوطية الرومانسية، بالإضافة إلى الواقعية الكلاسيكية التي تصدرت أطر السرد وتمايزت فيه.
امتازت المجموعة في العموم بلغة رتيبة رشيقة، فرضتأسلوباً بسيطاً مباشراً كان تقريريًا في بعض المواقع، وخبريًا في مواضع أخرى، وأدبيًا وجدانياً رمزياً في بعض القصص، و حكائياً في بعضها الآخر، ليلائم كل قارىء عربي سواء كان سطحياً أم نخبوياً أم عاديًا، ورغم جنوح بعض هذه القصص الى جنس الخاطرة الأدبية المتمحورة حول الذاتية التأملية والتحديق في الآخر كنوع من التعمق في الأنا ولا سيما في بعض النصوص التي كان الراوي فيها متكلماً غير موثوق، فامتلكت نهايات عائمة مفتوحة، لتطرح أسئلة وجودية مألوفة، مثل قصة( طعم البرتقال) التي تتحدث عن عقدة التوحد بذنب النجاة عندما تتلاشى كل أسرة الراوية في حادث أليم فيبقى منهم ذاكرة رائحة ومذاق كعكة البرتقال، وقصة(بحيرة) التي تطرح نموذجاً مألوفاً لحالة الوعي الجمعي حين تصيب مجتمعاً مصغراً مرتبكاً بجريمة غامضة تصبح فيه شخوص أقرباء الضحايا رمزاً لانهيارأخلاقي رمزي، بينما نجد أن بعض القصص التي امتلكت راويًا عليمًا، قدمت هوية قصصية متجددة من حيث الموضوعة ولغة الخطاب في المتن والرمزية، والسرد السريالي التغريبي، وضخ أنساق ثقافية نسوية مضمرة وأخرى غرائبية عن الفصل الجندري وأثره في تعسف المجتمع الشرقي ولا سيما حين يصدر من المرأة الذكورية وبالتالي مصادرة حقوقها البسيطة وهويتها الأنثوية كما في قصة (كوكب الجدات) التي تتحدث عن تمكين الوصاية الأبوية المتنكرة بالأنوثة من خلال شخصية الجدة المتحكمة في حفيداتها والقامعة لهن والقاسية عليهن.
تقدم ( خوف بارد) فكرة الشرخ النفسي الذي يسببه التحرش الجنسي المبكر والأثرالكارثي الذي يخلفه في تعامل المرأة مع رغباتها و معادلة الوجود في مؤسسة الزواج وقرارات الانفصال والاستقلالية وأفكارالحب، و نجد أن نجم الراوي العليم يبزغ باستقلالية عن صوت الكاتبة، مثل قصص )ورود ليلى)التي تتحدث عن التغيير الزمكاني القاهر للمجتمع الضيق الذي يصحب تجربة الفقد و قتل الطفولة متمثلة بجريمة قتل الطفلة ليلى واغتصابها والتي تغدو رمزاً ناعماُ للنقاء والبراءة في ذاكرة المكان، ومثل قصة )رئيس التحرير) التي تتحدث عن الوصولية والشللية والغيرة المتراكمة بين أبناء الفصيل الواحد التي تصل حد الإقصاء والتهميش، وقصة )وجوه) التي تتحدث عن معاناة المبدع في بيئته والتي تنتهي دائما بأثمان متفاوتة لا تخلو من الاستفادة من العلاقات ومفهوم الواسطة الدارج. وقصة )الوصية) التي تتحدث عن تناسل العواقب الأخلاقية للانحياز للشر والانحطاط القيمي المفجع الذي يجلب الوبال على صاحبته التي يفترض أنها رمز لتحقيق العدالة. وبين السرد الفوضوي الرمزي النفسي مثل قصة (عطر) التي تتحدث عن الأثر الذي يرتبط بأناس تحوطهم الغرابة والغموض، يدخلون حياتنا حاملين رسائل خفية، وقصة (حاجي ميت) التي تتبع موضوعة فلسفية مغلفة بالواقع، تطرح الأسئلة الوجودية الكبرى، عندما يتراكب فيها تصويرالواقع المحلي والغموض الفلسفي لشخصية حارس المقبرة السابق و حارس المقبرة اللاحق ورمزية الموت والأسئلة الماورائية الملحة الكبرى، بينما استطاعت الكاتبة برشاقة طرح ثيمات مختلفة اتسمت بالمذاق الإخباري التقريري والفانتازيا الجاذبة ذات الغموض المفتوح على التأويل، مثل قصتي (جريمة)و(سر الغيمة البيضاء) التي تتحدث عن مواقعة الحقيقة الصادمة وتأثيرها على الذات الفاعلة والمتفاعلة في المجتمع المغلق الذي ينعزل فيه المرء ويغدو حبيساً لمعرفته بذاته. وبينما قدمت القصص السريالية الرمزية نصوص وعي تتحدى فيها نخبة مجتمع التلقي، مثل قصة( قدم صفراء) التي تتحدث عن تداول الموروث المجتمعي المتوازي مع تعانق الحضارات، وفكرة تفوق الخرافة على العلم والإرث النسوي المسيطر على عقول العوام، ثم قصة (خبز) التي تمثل سريالية ما بعد حداثية، ينكفىء فيها الرمز نحو ضبابية الأمكنة وهلامية الزمن وقلق المرأة المعاصرة المستقلة، وتداعيات الذاكرة العميقة في ظل الشعور بالتباس الحاضر واللانتماء وضبابية الهوية.
نطل في مجموعة(خوف بارد) على عوالم عائشة سلطان الفريدة في تجربة كتابتها القصصية الأولى، والتي تميزت بالجرأة في الطرح، ونقد المجتمع بنظرة رمزية مواربة وتقديم أفكار نسوية خالية من المغالاة والتبجح، متسمة بالشجاعة والوجدانية والرمزية المستوحاة من الموروث، حين يشاربإصبع الاتهام إلى المرأة حين تتقن بذاتها فن خلق الحدود الجندرية المجحفة بحق بنات جنسها، جيلا بعد جيل.
