لا يُفارقُنا هذا الجبران… ولنْ!
يومَها كان عرسٌ في بوسطن، وكان أَمين الغريِّب هناك.. أَتوقَّف هنا وأَفتح صفحة مذكرات بخطه، ومنها: “كنتُ في نيويورك (حيث كان أَطلق جريدته “الـمُهاجر” سنة 1903) حين جاءَتْني في نوَّار 1905 دعوةٌ من بوسطن إِلى حفلة فرَح يُقيمها إِخواني البشرَّاويُّون.. وفي الدعوة: “زفاف زهرة عاطرة من ظَبيات بْشرِّي إِلى شاب أَديب نشيط من أَبنائها”.. وهناك عرَّفني والد العريس إِلى شابٍّ بشرَّاويّ في الثانية والعشرين من عمره يشتغل في التصوير اليَدَوي الرمزي يُدعى جبران خليل جبران (…).. دعاني إِلى رؤْية محلِّه وما فيه من رسومه (…).. سأَلتُه إِن كان كتب شيئًا يُطْلعُني عليه، فعَلَا الحياءُ وجْنتَيه، وقام إِلى مخدع جاء منه ببضعة فصول صغيرة قرأَ لي بعضَها فعرفْتُ أَنني أَمام أَديبٍ مُهَيَّإٍ ليكون كاتبًا عبقريًّا (…).. ومن ذلك الحين اتَّخذ جريدة “الـمُهاجر” منبرًا له (…).. وكانت “رؤْيا” أَولَ مقالة مطبوعة باسمه في “الـمُهاجر” يوم 17 نوار 1905 (…).. كتبتُ عنه تعريفًا بين ما قلتُهُ فيه: “نُوجِّه أَنظار القراء إِلى صورة أَفكاره السامية التي سنرسمها في كل عدد من أَعداد “المهاجر” تحت عنوان “دمعة وابتسامة” (…)..
يومها عرَضَ أَمين الغريّب أَن ينشر في “الـمُهاجر” مقالًا أُسبوعيًّا لجبران لقاءَ دولارَين. وما خرج أَمين الغريِّب من تلك الشقَّة المتواضعة حتى أَسرع جبران فرِحًا يُخبر شقيقتَه مريانا أَن كتاباته ستردُّ عليه ماديًّا بفضل الغريِّب، ما يخفِّف عنها صرْفَها عليه من عمَلها اليوميّ الـمُضْني بالإِبرة خيَّاطةً لدى السيدة طحَّان في بوسطن.. سوى أَنَّ أَمين الغريِّب لم يكتفِ (رعايةً وتوجيهًا) بمقالات جبران الأُسبوعية: فبعد نشْره عددًا منها، أَصدر له مقالتَه الطويلة “نبذة في فن الموسيقى” (1905) أَولَ كتاب لجبران بالعربية (مطبعة جريدة “الـمُهاجر”-21 شارع واشنطن-نيويورك).. وفي السنة التالية (1906) نشَرَ له كتابه العربي الثاني “عرائس المروج”، وبعده بسنتَين نشَرَ له كتابه الثالث “الأَرواح المتمردة” (1908) وصدَّره بمقدمة حول “أَفكار جبران وأُسلوبه المبتكَر”..
في أَواخر 1909 سافر جبران إِلى باريس يَدرس الرسم (بدعم من ماري هاسكل: 75 دولارًا شهريًّا)، وظلَّ يُرسل إِلى نيويورك مقالاته (لزاويته “دمعة وابتسامة”) حتى قرَّر الغريّب العودة إِلى لبنان وأَوكل إِدارة جريدته إِلى مخائيل رستم ونسيب كرم..
بقيَتْ مقالات جبران غافية في صفحات “الـمُهاجر” حتى جمَعَها صديقُه نسيب عريضة كتابًا بعنوانها في “الـمُهاجر” فسمَّاه “دمعة وابتسامة”، وأَصدره على مطبعته “الأَتلنتيك” (104، شارع واشنطن- نيويورك، وكان يُصدر منها مجلته “الفنون”).. وكتب مقدمة طويلة، مما فيها: “عندما طَلبْنا إِلى جبران جمْع مقالاته “دمعة وابتسامة” لنشْرها في كتاب، أَجابنا ببيتٍ من أَحد موشحاته: ذاك عهدٌ من حياتي قد مضى… بين تشبيبٍ وشَكوى ونُواح.. إِفعلوا ما شئْتُم، لكنَّ الشاب الذي كتَبَ تلك المقالات مات ودُفِنَ في وادي الأَحلام، وتقمَّصَت روحُه في جسدِ رجلٍ يحب العزم والقوة” (يرجِّحُ نُقَّادٌ أَنَّ جبران كتب المقدمة بتوقيع نسيب عريضة)..
صدرَت الطبعةُ الأُولى من الكتاب في أَيار 1914، بإِهداء إلى راعيَتِه ماري (إِليزابيت) هاسكل هكذا: ” إِلى الروح النبيلة التي تحب النسمات وتسير مع العواصف… إِلى MEH، أُقدِّم هذا الكتاب، وهو أَولُ نسمة من عاصفة حياتي”..
في الكتاب 58 مقالًا (تاسعُها “رؤْيا”: أَول نص نشره في “الـمُهاجر”)، وتوطئة توضيحية جاء فيها: “أَتمنَّى أَن تَبقى حياتي دمعة وابتسامة: دمعة أُشارك فيها منسَحقِي القلب، وابتسامة تكون عنوان فرحي بوُجودي”..
من 1914 إِلى 2014.. ها هي 110 سنوات تمرُّ، وهو حيٌّ بيننا، لا يمرُّ يوم إِلَّا ولنا منه شمسٌ بـظِلال كثيرة..
بلى: لا يُفارقُنا هذا الجبران!
و… لنْ!