قبريخا – جبل عامل د.علي حجازي
عندما دخلتُ المكتبَ الذي ابتعدت عنه ، سمعتُ أنيناً، حشرجةً . الصوتُ منبعثٌ من جارور اشتاق إلى ملامسة أناملي، بل أنا الذي اشتقت إليه
“ما هذا الذي يجري؟” ( تساءلت في سرّي.)
فتحته . مسرعاً فتحته، فاندفع النور لمعانقة القلم الذي يكاد يلفظ آخر أنفاسه، ويدلق دمه دفعةً واحدة
جحظت عيناي ، فأنا لا أصدِّقُ ما أرى، وسرعان ما توجّهت إليه سائلاً
− ما بك؟ ولمَ ذرفتَ ماءَ حياتك هكذا، قل لي؟
− استجمعَ آخرَ قواه، ثمّ تنهّد وقال
− لمّا أحسستُ قفلاً يسدُّ عليّ نور الشمس والحياة، وشعرتُ بغربةٍ قاتلةٍ في عتمةِ هذا المكان المقفل، وافتقدت حنوّ تلك الأنامل الحادبةِ على مناصرةِ قضايا إنسانية عادلة ، والتي كانت تدغدغُ توقي وشوقي إلى تحبير أحلامِ أطفالٍ ناموا على وعد، وعد بالحصول على لعبٍ وحلوى في هذا العيد، وكتب ودفاتر مدرسيّة غادروها مكرهين بسبب العوز والفاقة، والفقر المدقع. وكتابة أوجاع مرضى يتكوّمون عند عتبات المستشفيات التي باتوا عاجزين عن دفع تكاليف الطبابة المرتفعة فيها ، ونقل مشاهد طوابير الناس المهانين داخل أروقة المصارف التي أمّنوها على جنى أعمارهم ، فراحت تقطّر عليهم، فامتلأت نفوسهم غيظاً من رؤية حرّاسٍ رسميِّين يقومون على حمايتهم. وكشف أعمال سلب ونهب ارتكبها من كانوا مؤتمنين عليها، وعلى أحلام الناس، وتعرية المتآمرين على الوطن وحدوده وثرواته، المتّلعة أعناقهم شوقاً إلى لقاء أعداء الله والوطن، أولئك القادمين من شتات، مستبيحين الأرض والمقدّسات، مشرّدين أهلها، بعد مجازر ومجازر لا تعدّ ولا تحصى
أغمضت عينيّ، ورحتُ أستعيد مجدَ تلك الساعات التي كنتُ أحبّرُ فيها أوجاع الصفحات فتولد عليها قصصاً، أشعاراً وحكايات
– إيه قلمي الحبيب، لم أتخلّ عن مسؤوليّتي، إنّما، سبب تأخّري عنك، هو لملمة أوجاع فقراء خرجوا إلى الشوارع مطالبين بلقمة عيش شريف، بوقف السرقات والسمسرات ، وهدر مال الله وعباده، وساءني كثير اً أن أرى حراكهم وانتفاضتهم، تُسرق من بين أيديهم
هذا ما جئت أكتبه الآن ؛ لقد آلمني منظر ذلك الجندي وهو يحبو على باب المصرف بغية قبض راتبه ، ومشهد رفاقه المنتظرين خارجاً في هذا الصقيع ، بل ومشهد الموظَّفين الذين ملّ الانتظار الطويل منهم ،وهم يصطفون طوابير ذلّ جديدة في هذا الوطن
هزّ قلمي جسده وقال: ظننتك متأخّراً عن نصرة مَن حلموا كثيراً بضوء، بقبس نور، بفتات. فصبرت، ولمّا طال انتظاري فقدت الصبرَ، وفار دمّي، وذرفتُ دموعاً غزيرةً. تجمّدتْ آهاتي في حنجرتي، فارتميت منطرحاً أرنو إلى حياة لا تشبه هذه الحياة
– لا عليك ، دعني أحتضنك برفقٍ، وأمسح حبرَك الساخنَ . اعذرني يا صاحبي، يا رفيق دربي، فها أنذا الآن، عائد توّاً، من معاينة كلّ ما ذكرت، أسرعتُ لأكونَ مدادَك هذه المرّة، ولأنقلَ الصورةَ الحقيقيةَ إلى كلّ من ذكرت، والآن، لمّا بلغ السيل الزبى، وبلغتِ القلوبُ الحناجرَ، جئتك مستعيناً بك لتأريخ مجريات الأمور بتفاصيلها، وبصدقٍ أنت تعرفه، وبشفافيّةٍ تعهدها
− أفهم أنّك لم تنسني؟
− ولن أنساك أبد اً، فحبرك هو الذي يحوّل أفكاري، معاناتي، روحاً خالدةً في الكلمات
قلت ذلك، وعانقته بأناملي وشرعنا نسوّد بياض الصفحات بوقائع يندى لها جبين الإنسانية، فاستحالت الكلمات حكايات الحيتان الخضر التي تغنّي بعد التهام آخر بقايا أجساد ضحاياها، في حين تنتحر الحيتان الزرق على الشاطئ، خجلا من ابتلاعها كميةً زائدةً من الحبّار والسمك… زمن يا صديقي زمن، فعلاً إنّه زمن الحيتان الخضر
بيروت ، عشية عيد الميلاد المجيد
غرفة 19
- صرخةُ قلمٍ باحث عن كلماته الضّائعة
- “ظلالٌ مُضاعفةٌ بالعناقات” لنمر سعدي: تمجيدُ الحبِّ واستعاداتُ المُدن
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي
- “أيتها المرآة على الحائط، من الأذكى في العالم؟”