كلما فاحت رائحة الخشب يجتاحني شعور غريب يتراوح بين الحنين والانزعاج اذ انها تعبث بذاكرتي المرتبطة بصفي في مدرستي الابتدائية التي كانت تعتلي ظهر معمل أخشاب (منشرة). كان الغبار المتطاير من نشارة الخشب يدخل انفي وتنتابني نوبات العطس التي كانت تتسبب باخراجي من الصف. حساسية كان يحسدني عليها معظم زملائي اذ انها كانت تتيح لي هامشا من اضاعة بعض الوقت في الملعب الفسيح.
كانت اولى انطباعاتي عن المدرسة الابتدائية شبه المجانية التي سأرتادها لاحقا مخيّبة، اذ صدف ان اصطحبني اليها اخي، الاكبر مني سنا وكنت لا ازال في الثالثة من عمري واجلسني لصيقا بجانبه على المقعد الخشبي الطويل. وما هي الا لحظات حتى دخلت المعلمة الثلاثينية بتقاسيمها الجافة وطلبت منه ان يقرأ الدرس بصوت عال ففعل ثم طلبت مني نفس الشيء – يا غافل الك الله – تلعثمتُ وتعلقت بأخي مستنجدا، فصرخَتْ بصوت فيه مزيج من التأنيب والازدراء، غير مدركة انني لا انتمي الى صفها اساسا :
مزروب عالفرصة….
وهكذا كان وانزرب معي اخي تضامنا….(لن انسى له هذا الجميل مدى الحياة.)
كان صاحب ومدير المدرسة شخصية نرجسية وصل به الامر ان الف نشيدا خاصا به وكان ديكتاتوريا لا يتوانى عن استعمال كافة وسائل التعنيف المتعارف عليها ومنها المستنبطة من جهاز امني كان ينتمي اليه كما كان يشاع عنه، وذلك لاخضاع التلامذة المشاغبين ومعاقبة الكسولين. كانت العقوبة بحسب الجرم تتراوح من الصفعة الى الضرب بالعصا انتهاء بالفلَقة ( الضرب بالعصا على القدمين المكبلتين المرفوعتين).
ما زلت اذكر اليوم الاول الفعلي لي في المدرسة حين هددتني المعلمة بغرفة “الجرادين” القابعة في احدى زوايا الصف الكبير اذا لم التزم الصمت. يومها رجعت الى ابي شاكيا رافضا العودة الى المدرسة الا بمعيته وواثقا انه ذاهب ليسترد كرامتي المهدورة من المعلمة والمدير .
وما أن التقاهما حتى تفاجأت بأن تبادل معهما السلام والنكات…. فما كان مني الا ان بدأت ارفسه غاضبا ليقيني بتآمره عليّ معهما.
فيما بعد وبالرغم من انني كنت من المتفوقين دراسيا والمنضبطين سلوكيا الا انني لم اسلم من الضرب بالعصا على اطراف الاصابع لأسباب لا علاقة لها بالدرس وانما بفعل نميمة بعض رفقائي. كما شهدتُ العديد من الفلقات لزملاء لي، وللمفارقة فإنني ما زلت الى اليوم عند لقائي بهم وبفعل لاارادي انظر الى اقدامهم قبل وجوههم .
كان اغلب اهالي التلامذة معجبين بمديرنا وادارته الحكيمة واسعاره المتهاودة ولا سيما والدي الذي ما زال يترحم عليه ويقول لولاه لما اصبحتم دكاترة ومهندسين…. قالها لي بالأمس ونحن في طريقنا الى ” زميل الدراسة” من جماعة آكلي الفلقة لنشتري من دكانه الصغير كرتونة بيض، وصدف أنه كان يصلح باًباً بمنشاره اليدوي وتعبق في المكان رائحة الخشب…..فعدلت عن الدخول.