سماءٌ أضاء القمر سوادها، وبيوتاتٌ صغيرة أقفلت أبوابها، كي تستمتع براحةٍ بعد نهار طويل..تلك الأجواء الحميمة التي طالما عمّت أرجاء مدينة النور، رغم كلّ مآسيها، كان هذا هدوءها الأخير..
أمّا بعد حين، فإنّ الغد لناظره قريب..هناك على الشاطئ الأبيض تغفو هي، بشعرها المنسدل على كتفيْها، حاملةً هموم الأرض في قلبها، لكنّها تنام على أمل أن ينفكّ حصارها..
لسنوات عدّة نزفت، بكت في سرّها، وتألّمت، ولم تجد من يساندها حتى عائلتها..لكنها ربت أبناءها على الحرية والكرامة، فبات الحجر سلاحهم الوحيد. كَبُرَ الأطفال الصغار، وبدلوا الحجارة بالرشاش، فقضايا الشرّف تُحَلُّ بنزف الدّم..لم يكن ذلك اليوم كغيره، أشرقت شمس النّصر، واختبأت العناكبُ في المغاور وسكنت الطائرات سماء المدينة السّمراء.
فِراس هيّا بِنا نلعب، هيّا،
هيّا..
كأن كمال أراد أن يفرح باللعب للمرة الأخيرة في أزقة الحارة..
لو كنت أعلم، لما منعتهما من اللعب تحت شباك غرفتي، كنت منهك القوى وأحضّر لامتحانات الجامعة..
يومان فقط، وبدأت المباني
على أصحابها تقع.
هل هو ذلك الصوت يُسمع، أم تراه حين تمرّ تلك الطائرة يختفي معلِنًا الموت.
بحث فراس عن أخيه مطوّلا وإذ به في ذلك المشفى المطوّق بالمدافع، يراه مقطّع الأوصال..
تلك الكارثة التي طرقت باب كلّ بيت في المدينة، سرقت أرواح الأحبّة فلم نعُدْ نسمع، لا صدى ضحكات، ولا أصوات بائع الخبز.. اختفى أولاد الحارة..
بل حملوا أحلامهم على أجنحة وملأوا بها الجنّة. أمّا الصباحات المليئة برائحة القهوة فرحةً بيوم جديد قد سكنت،
صار جلّ همّنا معرفةَ هل مازلنا على قيد الحياة
أم أننا أصبحنا رماد..
فلنكمل يا صديقي البحث، أنا أسحب الفتاة وأنت تمسك الحجارة..
لا يمكننا يا صلاح نحتاج إلى معدّات ثقيلة، ونحن لا نملك سوى سواعِدنا..
صلاح هيّا، ما بك؟؟ بماذا تُفَكّرْ؟ ساعدني هيّا!!!
سوف أجعل العالم يعيش معنا مأساتَنا، سأحمل الكاميرا وأشارِك كلّ اللّحظات، وأنت وشباب الحيّ أكملوا البحث عن أحياء..
التفت صلاح حوله، لم يجد سِوى الدّمار، أحياء بأكملها لم تَعُدْ موجودة، لقد اختفت ملامِحُ المدينة، ولم يبقَ لهم سوى ذكرياتٍ حزينة، ثكلى،
مليئة بالألم..
أين يجد أحياء، هو لا يرى سوى أشلاء.
بكى بصوت مرتفع،
لماذا نحن؟ من بقيَ لنا، لم يبقَ أحد هنا.
لنا الله وحده يحمينا.
كفكف دموعه وتابع العمل..
هل ينتهي العذاب يومًا؟؟؟
هل تراه القدر؟ أم هي أساطير معبدٍ مزعوم؟
لكن، بذور النّصر تُزرعُ في أزقّةٍ مخفيّة الملامح، لتنذر ببزوغ فجرٍ جديد.
والظّلم إن طال، فإنّ الأمل وحده يرمّم القلب، وقلبنا ينبض بالفجر القريب.
إنّ العسر يتبعه يسر، هذا وعد الله لنا، وما دمنا أحياء سننتصر.
نور قاسم سعد – لبنان