يوسف طراد
بالرّغم من حُزَم اليأس والألم، أزهرت الورود في رياض الأمل، فكان كتاب «حزام الإيمان» لليليان وديع سعاده، سيرة وعبرة من عِبَر الإنسانيّة
مسيرة الألم التي جرّحت جسمها، وصقلت روحها الممتلئة بنِعَم الرب. هي الابنة الرابعة بعد ثلاث بنات، تلقّت في طفولتها جرعة لقاح أكثر من المسموح، جعلتها مُقعدة الجسم مع أحلامٍ مجنَّحة تحلِّق بها في سماء مليئة بالمفاجآت، وهي تتأمَّل في ما أصابها: “غلطةُ من؟ هل لتتمَّ مشيئة الله؟… فلطالما لم تهمَّني الأسباب بقدر ما همّتني النتائج.”
عاشت طفولةً مرحة بالرغم من الانكماش النفسي الذي فرضه تفاوت القدرات الجسديّة بينها وبين أترابها الذين كانوا يحملونها على أكتافهم، أو يضعونها في سحّارة بندورة وضعَ لها ابنُ عمِّها دواليب درّاجة قديمة، في زمنٍ لم تكن فيه الكراسي المدَوْلبة متوفرة. مرّت الأيام وزاد الألم، ليس من وجع الجسد، بل من الوحدة القاتلة، حيث كان الجميع يذهبون إلى أعمالهم وتبقى هي أسيرة غرفتها إلى حين عودتهم. رفيقها الدائم المذياع، أستاذها الأثيريّ، إذ تعلّمت الإنكليزيّة عبره من خلال إذاعة لندن. كان نهَمُها كبيرًا للقراءة، لأنّها كانت متأكِّدةً أنَّ ما تتعلّمه بجهد فرديّ سيكون ركيزة لمستقبلها
بعدما سكنت الأوهام السوداويّة جسدًا مكبّلًا فاقد الحرّية، ممتلئًا بالطموح، جاء شعاع أملٍ في التغيير من فريقٍ تبشيريّ، انتشلها من وحدتها لمدّة أسبوع، فكان خروجها لأوّل مرّة إلى مخيّمٍ خارج المنزل. نزلت بعدها لتعمل في مركزٍ يهتمُّ بأشخاصٍ من ذوي الحاجات الخاصّة. تروي لنا ظروف حياتها: اِنتقالها الدائم إلى منازل عديدة؛ مرضَها وخضوعَها لعمليات جراحّية عدّة من أجل تقويم العمود الفقري؛ علاقاتِها المميّزة مع بعض أصدقائها، وجفاء العلاقات مع آخرين؛ محاولة التحرُّش بها؛ إحباطها بسبب تقاضيها بدل أتعاب لم يكن يغطّي جميع احتاياجاتها، مع ما كانت تقدّمه من جهد عظيم… كلُّ ذلك لم يؤثّر في طموحها. فناضلت حتى حقّقت المرتجى، وزيّنت حياتها بالفرح
جميعنا نعيش ونستمرّ بمشيئة الرب. في سيرتها تؤكّد ليليان اتّكالها على الله، وقد جسّدت إيمانها من خلال مسيرتها في جمعيّة “لتكن مشيئتك” التي أسّستها صديقتها روزين، العائدة إلى الحياة بعد شفائها من مرضٍ عضال
ليليان وديع سعاده تمسّكت بالفرح من خلال عملها، فابتعدت عن فصيلة البؤساء، حتى لا تصيبها عدواهم. نظرت إلى الحياة بعيدًا عن سجن جسدها، وانطلقت تلاحق أمانيها خارج أوهام العزلة: “يكرهون الموت ويلعنون الحياة فأجدهم مسجونين ما بين الحالتين”. لقد كتبت تفاصيل حياتها، لأن الحياة وُجدت كي نعيشها ونكتبها بألمنا وفرحنا. أبحرت في المستحيل من فيض شعور عالمها، فكانت مسافاتها “مراتونًا” أبعدَ من أوهام الشفقة، هي القائلة: “من كان دوره سلبيًّا علّمني التحدّي ومن كان دوره إيجابيًّا أعطاني إيمانًا بالحياة والإنسان، فشكري لهم جميعًا”
للنهر ارتعاشةُ الأقحوان ولزهر اللوز رونقٌ وعبير، ولحياة ليليان سحرٌ في جنّة تلوذ إلى قلبها. لكن ليس للإنسان سوى أوهام الواقع والأسف المتمادي: “يتمنّون لي على مسمعي الموت الرحيم الذي هو برأيهم الحلَّ الأفضل لمن هم مثلي”. فقد قطفَت من السماء كبرياء النجوم ورودًا، لترتقيَ إنجازاتٍ تحت عجلات عربتها الكهربائيّة. تجسّدت المعاني أمام لغز هروبها من الوديان السحيقة، واضعة النقاط على الحروف: “علّه يأتي يوم ولا يضطرُّ المريض وأهله، فوق ألمهم ومعاناتهم، أن يتحمّلوا غضب من اتّخذ التمريض مهنة لجني المال فقط”
ضمن كلِّ هذا الهُراء في ترحال البشر إلى البؤس، وكرنفال الحياة المتهالك، أوجدَ الربُّ ذوي الاحتياجات الخاصّة، كضرورةٍ للعبور من السجن الضيّق إلى المعاني السامية، امتحانًا لقدرته في محبّيه. فلا منديلَ يَمسح دموع التجارب الأليمة المتتالية، ولا أزهارَ تَنبت على أشواك لامبالاتنا. وحدها ضحكاتُهم تجري في عروق الإنسانيّة
الخميس 14 نوار 2020
الصورة: الكاتبة ليليان سعادة مع “ميشو شو”