“أَزرار” رقم 1373
“النهار”:
الجمعة أَوَّل آب 2025
ودَّعُوهُ كأَنَّه ابنُهم. كأَنَّه أَخوهُم. كأَنَّه يخصُّ كلَّ واحدٍ منهم. صفَّقوا لخروج نعشه من المستشفى في بيروت. صفَّقوا لخروجه من الكنيسة في بكفيا. كثيرون كانوا صادقين فلم يتكلَّموا. عبَّروا بِصَمْتهم. بذُهولهم. بصَدْمتهم. بفجيعتهم. جمَعَ حول جثمانه كلَّ فريقٍ وفئةٍ ونَزعة. سقَطَت في جنازته الفوارقُ السياسية والاجتماعية والفنية. مَن كانوا يحبُّونه اجتمعوا على الحزن، ومَن لم يحبُّوه اجتمعوا على التقدير. لم يكن عاديًّا أَن يموتَ مبدعٌ استثنائيُّ المواهبِ في مستواه وحجمه وحضوره.
واكبُوه يُنتِج، ولو بتَقَطُّع. وبرغم التقطُّع كان غزيرًا: مسرحًا وأُغنياتٍ وموسيقًى وكتاباتٍ ساخرةً ومتابعاتٍ صحافيةً وبرامجَ إِذاعية. كتب بلسان الناس فأَحبَّه الناس. جَرُؤَ على كلِّ “تابو” فكأَنَّه جَرُؤَ عنهم جميعًا. “قوم فُوت نامْ، وصير حْلامْ، إِنو بلَدنا صارت بلَد… قوم فوت نام، وهالإِيام حارَة بيسكِّرها ولَد”.. كسرَ القوالب المأْلوفة، وفرَّ إِلى قلوب الناس، سبَّاقًا برؤْيته الثاقبة في نقْل همومهم، يُخْرج صرخاتهم من مستَنْقَع القبول والانكسار. وكلُّ هذا ببساطة وعفوية. لم يلبس قناع الفنان بل أَبقى وجهه سافرًا، لأَنه حقيقيّ. لذا احتشَد المئاتُ لوداعه، كأَنهم في مأْتمِ نسيبٍ لهم، قريبٍ، حبيب.
جنازتُه الحاشدةُ جدًّا أَخذَتْني 39 سنة إِلى الماضي، إِلى جنازة عاصي في أنطلياس (22 حزيران 1986). يومَها الْتَمَّ أَيضًا لبنان كلُّه حول نعشه، بشعورِ أَنَّ عظيمًا قَضى. وكان مأْتمه مهيبًا. الجامع الواحد بين المأْتَـمَـين: صمْتُ فيروز، الأُسطورة الحية التي تعاقبَتْ عليها المآسي الهائلة. صدَمَتْها. ضربَتْها كما العواصفُ والرعودُ والصواعق تَضربُ قمَمَ الجبال. وهي بقيَت قويَّةً خلْف صمْتها، صامدةً كما قممُ الجبال، في هَيْبَة عرَّافةٍ من الميثولوحيا الإِغريقية. طوالَ يومَين بقيَتْ صامتةً خلْف حزنها. تتلقَّى بنظراتها التسعينية تَوَافُدَ الناس أَمامها. منهم مَن صدَقُوا في مرورهم. منهم مَن جاؤُوا ليرَوْها أَولَ مرةٍ، ولو في هذا الوضْع المر، بَعد طول عُزلتها. ومنهم (وبين هؤُلاء معظمُ “بيت بو سياسة”) مَن جاؤُوا لأَن كاميرات التلفزيون تنقُل وُفودَ المعزِّين وتصاريحَهُم، فرصةً لهم كي يُسجِّلوا حضورَهم في وداع زياد.

مأْتَمُ زياد سيَبقى محطةً فريدة في تاريخ أَحداثنا السياسية والاجتماعية. فَرادتُهُ أَنه جمَعَ ما لم يَرَهُ الناس إِلَّا في المآتم “الرسمية”. واستحضارًا مواقفَ زياد حيال الرسميين، يكون أَنه هو العبقريُّ الباقي حاليًّا ومستقبَلًا، وهُم الذاهبون إِلى “السابق”. كلٌّ من أَصحاب الأَلقاب السياسية، في كل حقْبة، سيُصبح “المسؤُول السابق” ويَذهب هو وحقْبتُهُ في الحُكْم إِلى النسيان. لكنَّ زياد، وكلَّ مبدعٍ من مستوى زياد، لن يُمسي، ولو بعد أَجيال، الفنانَ “السابق”.. المواطنون العاديُّون ينتسبون إِلى الوطن، أَمَّا المبدعون فالوطنُ ينتسب إِليهم. هنا عظَمَة المبدعين في التاريخ: يتوقَّف فيهم نبْضُ هذا الجسد الـمُوَقَّت فيعودُ إِلى التراب ويَبْلى، لكنَّ إِبداعهم يبقى بعدَهم لا إِلى فناء، ويكون إِبداعُهم عنْوانًا آخَرَ لوطنهم.. طويلًا بعدَهم يَذْكُر الناسُ والدارسون والمؤَرخون نتاجَهم الإِبداعي الباقي للوطن في زمانهم، ولا يَذْكُرون مَن كان حاكمًا في زمانهم لأَن هؤُلاء العابرين يكونون غابوا في طبقات النسيان.
بعد انتهاء التعازي بزياد، وتلك الجُموع حَول نعشه كما حَول عائلته، يتَّضح أَنَّ مأْتمه الْكان متفرِّدًا، يبقى معيارًا، ظاهرةً، دلالةً، ومنارةً لنقْل تراثه إِلى الأَجيال الجديدة، مسرحًا وأُغنياتٍ، يتردَّد صداها بعدَه وبعدَنا طويلًا طويلًا للأَجيال المقبلة، لأَنه صوتُ الناس وسيبقى صوتَ الناس مع كلِّ جيل سيأْتي.
لذا أَرى أَنَّ مأْتمه لم يكُن وداعًا بل وديعةً تَعِدُ الناس وتُعِدُّهُمُ اليومَ وكلَّ يوم، بأَنَّ من غابَ جسدًا لن يَغيبَ فنُّه، بل يبقى كوكبَ إِبداعٍ رحبانيٍّ مُغايرٍ، فريدًا في سماء لبنان.
