
زياد كائن مفرَد، إذ خرج من عائلته وعليها، على الرغم من الانشدادات والانقطاعات بينه وبينها.
مفردٌ في ما صنعَه، حتى إن البعض أطلق عليه ألقاباً صعبة التصور، مثل : قارئ الغيب، والعبقري، وغيرها الكثير. هو لم يكن هذا أو ذاك، بل كان قريباً من أحوال الناس، وواقعي النظرة إليهم، لا سيما في التفكك والنزاع الأهليين في الاجتماع اللبناني.
فقد تطلعَ إلى أن يكون فرداً في بنية عائلية مجتمعية تقليدية، راسخة التكوين، وصعبة التفكك.
كما عملَ من أجل أن يكون مفرداً في فنه، وهو ما لم تتوافر له شروط إمكانه كلها. هذا ما استوقفَني في أغنياته، حيث بدا لي، مثل غيري، أن صوت الراحل جوزيف صقر كان الأنسب لها. كما بدا لي أن صوت لطيفة التونسية يتناغم مع ما لحنَه. وفق ذات التفسير، وجدتُ أن أغنياته لفيروز قد تُجدد سجلها الغنائي، لكنها لا تناسب أداءها، الجامد والطهراني.
بل يمكن القول إن زياد كان أقرب إلى ملحن ومغن في الوقت عينه، من دون أن يكون صوته مناسباً وموافقاً. هو (بمعنى من المعاني) مثل المؤلف الباحث عن شخصياته… هذا ما يتأكد أكثر، إذ ننتبه إلى أغنياته، لا إلى مغنيها بالضرورة.
وهو ما يمكن قوله بقوة أكبر في كلمات أغنياته، حيث لا يكفي القول إنها عامية، وإنها غريبة، أو ذات تركيب شعري. فقد وجدتُ، كما كتبتُ قبل سنوات بعيدة، أن لغته الغنائية تقوم على “تركيب”، لا على استعمال دارج للعامية. أعرف منه أنه كان ينتقل، قبل أكثر من أربعة عقود إلى مقاهٍ، إلى مجالس، بصحبة آلة التسجيل الصغيرة، لتسجيل جمل وتراكيب و”نتف” حوارية بعينها. إلا أنه لا يُوردها مثلما سمعَها، بل يستعملها ويوظفها بقدر واسع من الحذاقة والتفنن. كان يتأبى، على سبيل المثال، لغة الرقة المائعة، أو “الحَوْرَبة”، أو النبر الزجلي، وبلادة المعاني، كما نجدها في كثير من الغناء اللبناني بالعامية. هذا ما يُوحي بأنها لغة بسيطة، فيما هي “مشغولة”، حتى إننا نستعصب حفظها إلا في ما ندر.
لزياد الرحباني مكانة فريدة ومفردة، أبعد من لبنان. كما نجح في استيلاد جمهور له أشد ارتباطاً بالغناء، بأغنياته حصراً، من جمهوره السياسي.