
كان فريديريك نيتشه يقول “أعرف مسيحيّاً واحداً، مات على الصليب”.
وعلى غراره أقول “أعرف يساريّاً حقيقيّاً واحداً، هو زياد رحباني”… مات يائساً ممّا آلت إليه الحياة عموماً وحياته خصوصاً، في 26 – 7 – 2025، عن 69 عاماً، من تشمُّع في الكبد، عاناه طويلاً.
زياد العبقري نجل العبقري عاصي والأيقونة فيروز، رحل أميناً حتى آخر رمق، لمبادئه الإنسانية المرتكزة على فكر الأخوين رحباني وماركس ولينين وتشي غيفارا، من حيث تحقيقُ المساواة بين الناس والعدالة الاجتماعية ورفض الفروقات الطبقية، واعتبار الإنسان إنساناً وقيمة في ذاته.
رحل مألوماً من وضع سياسيٍّ “شي فاشل” هو، كما ألمح في مسرحيَّته؛ ومن حال اقتصادية ومالية ونقدية مدمِّرة “وباقي مجّة زغيرة بآخر سيجارة لآخر الغدا، إذا بدَّك خدا”، كما خاطب الغنيَّ في أغنيته “شو عدا ما بدا”؛ ومن واقع اجتماعي مُذرٍ و”قال إنو غني عم يعطي فقير”، لكنه لم يكفر بل إن الجوع كافر وكذلك المرض والفقر، وإن “الإشيا الكافرين” اجتمعت فيه عن بكرة أبيها؛ ومن مسيرة فنية موسيقية ومسرحية وغنائية، لم يسعَ إلى أن تجعله غنيّاً، لكنها وقعت ضمن إطار فني عام تتحكم به المحسوبيات والتفاهة وقلة الموهبة والوقاحة والاستعراض السَّخيف والإطلالات المنفوخة والسيقان والصدور شبه العارية، وقد اختصرها جميعاً بعبارة من مسرحيته “بخصوص الكرامة والشعب العنيد”: “بدي أعرف مين سيدة الرقص الشرقي”، وبشخصية غريبة هي تلك التي ترتدي بنطلوناً في رأسها، فيما أسفلها مكشوف.
زياد رحباني الذي انغمس في الهمِّ السياسي، بإنسانية، منذ مسرحيته الثانية “نزل السرور”، ليعبِّر أكثر لاحقاً عن مواقفه الصريحة الجريئة، بلغته المميزة، في برنامجه على إذاعة لبنان “قولو ألله بعدنا طيبين”، لم يُسمع له حسٌّ، ولا سُجِّل له ظهور أو إطلالة، إذ انكفأ عن الإعلام، منذ الانهيار الاقتصادي وما سمي “الثورة” عام 2019، وخصوصاً في عز حرب الإسناد والاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على لبنان، عامي 2023 و2024، هو صاحب المواقف العالية الصوت في مواجهة إسرائيل والخذلان العربي، و”إذا واقف جنوب، واقف بِوْلادو”.
لم يظهر، مذ ذاك، إلا في مناسبتين: صورة التُقطت من نحو سنتين، جمعته وابن عمه غسان في مطعم يتناولان طعام الغداء، طمأن نجل الياس الناس، في تعليق مرفق عليها، إلى أن زياد بخير. كأنَّ خطر المرض كان بدأ يدهم صاحب “سألوني الناس”، يعالجه بالأدوية والعقاقير، إلى أن قرَّر عشية رحيله الإقلاع عنها، كأنِّي به يذهب إلى حتفه برجليه. أما المناسبة الثانية فزيارة العائلة لكنيسة في المحيدثة، تلك التي سيصلى عليه فيها الإثنين 28 تموز الجاري، الرابعة بعد الظهر. زيارة ضمَّت فيروز وزياد وشقيقه هلي المصاب بمرض السحايا وشقيقته ريما. وكأني بزياد كان يرتِّب موته، ويكتب وصيته ونهايته، في كنيسة القرية حيث كان يصطاف عاصي ومنصور والعائلتان، لا في أنطلياس حيث كنيسة مار الياس التي شهدت تفجر الموهبة الرحبانية، كما كان نبع الفوّار، للجَد حنا، يتفجَّر. وفي تلك المرحلة تردَّد أن عطلاً أصاب عصب يده اليمنى، فبات عاجزاً عن العزف على البيانو… أي إنه مات قبل أن يموت.
زياد رحباني لم يكن موسيقيّاً وعازفاً على البيانو والأورغ والكيبورد والأكورديون والبزق وآلات الإيقاع، ولم يكن كذلك شاعراً ومؤدِّياً ومسرحيّاً ومخرجاً وممثلاً وإعلاميّاً وصحافيّاً وسياسيّاً، فحسب، كان كل هؤلاء، ولكن أيضاً كان قامة إنسانيَّة، أولاً وأخيراً، في كل ما أتى من رأسه حتى أخمص قدميه، ومن “مخِّه” إلى شغاف قلبه وحنايا روحه. وقد جسّد تلك الإنسانية الناصعة، في كلِّ أعماله المسرحية وحلقاته الإذاعية وإطلالاته مع فرقته الموسيقية الغنائية على مسارح لبنان والدول العربية، وفي مقابلاته وحواراته، وفي مضامين أغنياته، وفي مسار حياته وسلوكه وتعاطيه مع الناس.
يروي زياد في حلقة إذاعية خصّصها لذكرى غياب والده الذي توفي في 21 حزيران 1986، كيف تحمّس وهو في سن الرابعة عشرة ليدخل في حزب الكتائب، فنهره عاصي، وطلب منه، والطقس ماطر في المحيدثة، أن “روح لِمّ بِزّاق”. وحين كبر، وبلغ سن الرشد عرض على والده أن ينتمي إلى الحزب الشيوعي، فنهره أيضاً وقال له “إذا فيه من شيوعيين، فنحن، أي عاصي ومنصور، الشيوعيون”.
لكن زياد عاد وانتمى إلى الحزب الشيوعي، وشارك في فاعلياته وأنشطته، وكان عنصراً فاعلاً، وإن لم يتسلم منصباً قياديّاً. وبحكم طبيعته الناقدة، لم يسكت عما آل إليه وضع الحزب، فأسس مع مجموعة من المحازبين والخارجين من الحزب حركة “كولكتيف”، ولكن بقيت في إطار النية والفعل غير المكتمل.
وتشاء المصادفات، قبل أن يخرج زياد من عباءة العائلة، ويلجأ مع اندلاع الحرب في لبنان عام 1975، إلى غرب بيروت، أن يكون جزءاً من حركة شبابية في أنطلياس تأثرت بفكر ميّال إلى اليسار، برئاسة كاهن مختلف مميَّز منفتح، فكان هذا الكاهن أوّلَ من أخذ بيد زياد إلى الهمِّ الإنساني، يحياه ويعمل له، ولا يتنازل عن مبدأ أو فكرة أو يساوم أو “يبيع ويشتري” مهما بلغت المغريات… وكان أن زياد لحن مجموعة من التراتيل باتت أساساً في كلِّ قداس.
وإذا استثنينا “سهرية”، مسرحيته الأولى التي أطلّ بها على الجمهور، في بقنايا أولاً، من بطولة مروان محفوظ وجوزف صقر وفيفيان قشعمي، ومن ثمَّ على مسرح “أورلي” في الحمرا حيث حلت جورجيت صايغ محل فيفيان، والتي سار بها على خطى الأخوين رحباني، نجد فكره السياسي في ما تبعها من أعمال.
ففي مسرحيته الثانية “نزل السرور”، انطلق من رواد فندق شعبي، فقراء بسطاء، تديره أرملة غنية تملك غيره الكثير، وتريد تزويج ابنتها، فيقتحمه “ثائران” ليفرضا على النزلاء ثورة يقودانها احتجاجاً على ظلم لاحق بهما، وجوع ومرض وفقر. فقيران يثوران على فقراء، و”جايي مع الشعب المسكين”، ولكن لا للقيام بثورة، إنما كما شاءت الأحداث، لتعويضها بزواج من ابنة صاحبة الفندق التي تهرب لاحقاً من زوجها، ليغضب الزوج، فتطفئ غضبه لذة عابرة، مع راقصة نزيلة الفندق… ليتركه رفيقه الثائر ويصرخ ناعياً تلك الثورة “ما في شي خلص”.
وفي مسرحيته الثالثة “بالنسبة لبكرا شو؟”، عالج الوضع الاجتماعي، وأظهر الانصياع الذي يُجبَر عليه عاملون في نادٍ ليلي، للإدارة وللعمل براتب قليل، من دون زيادة أجر، في وقت ينعم أصحاب النادي ومديروه ورواده بملذات الحياة… إلى أن يغضب زياد (بدور “زكريا”)، من أحد الزبائن، فيطعنه، ويدخل السجن، فتكمل زوجته “ثريا” الحياة والعمل في النادي، كنادلة تجالس الزبائن الميسورين، كأن شيئاً لم يكن، و”من إنتي وزغيرة فيكي ع هـ الشغلات”؟
وفي مسرحيته الرابعة التي عُدَّت أفضل أعماله “فيلم أميركي طويل”، يفضح المؤامرات التي دبِّرت للبنان، فتجعل أهله مصابين بأمراض عقلية، إذ لم يعودوا يفهمون شيئاً مما يحدث، ولا سيّما منها مؤامرة الولايات المتحدة الأميركية، والمداخلات الإقليمية والدولية السياسية والعسكرية والأمنية التي فاقمت الوضع، فضلاً عن تفشي الطائفية بينهم… و”يا زمان الطائفية، طائفيي وطائفيك”.
وفي مسرحيته الخامسة “شي فاشل”، ظن كثرٌ أنها مجرد نقد لمسرح الأخوين رحباني، لكن من يغوص في عمقها، يدرك أنها نقد للواقع اللبناني حيث “لا يركب الشنكل على البكرة”، وتكفيك فيها المطالعة الختامية لـ”أبو الزلف” الذي كان الأمير فخر الدين يشتري “تيشرتاته” وشراويله منه، ليعلن زياد، أو “المخرج نور” تمرده على موروثات وتقاليد بالية، وانتقاده مضامين مسرحيات والده وعمه، التي كانت تعطي صورة مجملة عن واقع مملوء بالكذب والرياء والخداع والطائفية.
وفي مسرحيتَي “بخصوص الكرامة والشعب العنيد” و”لولا فسحة الأمل”، اختصر كل مأساة لبنان بعبارة “سعيدة يا با ودعوس”، مطلوبة من ضابط، أي حاكم، يتولى الحكم بصرامة، فيطارد الشواذات لإزالتها ومنعها، ويعمل لفرض الأمن والنظام، ويكره الرياء والكذب، ويتخوف من أن نصبح شعباً كالحيوانات يوماً ما، إذا لم نصلح أنفسنا.
أما برامجه الإذاعية من “قولو ألله بعدنا طيبين”، إلى “العقل زينة”، إلى “تابع لشي تابع شي”، فـ”يه ما أحلاكن شو حلوين”، فكانت عبارة عن اسكتشات نقدية ترفض ما هو ناتئ في مختلف مظاهر الحياة، ولا سيما منها السياسية، وتخاطب الناس بسخرية سوداء وبوجدان إنساني…
تبقى مقالاته في صحيفة “الأخبار” خصوصاً، ضمن زاوية “ما العمل؟” فلم تحد عن خطه الإنساني ونقده اللاذع وسخريته المحببة، وقد حول زياد كثيراً منها حوارات فاصلة بين الأغاني يؤديها ممثلون أو فنانون على المسرح حيث يقدم حفلاته الموسيقية الغنائية.
وما بالك بمضامين أغانيه الهادفة التي صُنفت في خانة الأغنية الملتزمة، خصوصاً مجموعة “أنا مش كافر”، وفيها نقد سياسي “أنا والله فكري هنيك”، واجتماعي اقتصادي “يمكن رح ينقطع الخبز بهـ اليومين”، أو مجموعة “بما إنو” التي كانت آخر ما أدَّاه الراحل جوزف صقر من ألحان زياد وشعره، إلى مجموعة “مونودوز” التي عبرت فيها سلمى مصفي عن حالات إنسانية، وتناولت في إحدى الأغنيات مسألة الموت، وتهكَّمت في أخرى على وضع منزل زياد “ولَّعت كتير”.
وتبلُغ رسالة زياد الإنسانية ذورتها، في الأغنيات والمقطوعات الموسيقية التي ضمَّنها أسطوانات فيروز، من واقع الحب بلغة شعبية يومية و”كيفك إنت ملا إنت”، إلى “إيه في أمل” الذي “مرَّات بيطلع من ملل”، إلى مقطوعة “ضيعانو” المهداة إلى الدكتور عبد الرحمن اللبان مسؤول “النجدة الشعبية” التابعة للحزب الشيوعي اللبناني، وكان خير مثال للعمل الإنساني، إلى مقطوعة “تل الزعتر” في أسطوانة “إيه في أمل”… من دون أن ننسى تلك التحية التي رفعها زياد رحباني لعامل النظافة “صديقي صبحي الجيز”، فأدتها فيروز، بعدما سبقها إلى أدائها خالد الهبر.
وما بالك أيضاً أن ترتدي ألسنة الناس نصوص مسرحيات زياد واسكتشاته، فتصير لغة تخاطب يومي بينهم، ويروح كثر منهم ينسجون على غراره أسلوب اللعب على الكلام، كأن “تسعى البنت إلى عشرة”، أو “شفير الهاوية والوزان”، أو “بين ليلة وضواحيها”، إلخ…
حسب زياد، بعد مسيرة فنية طويلة، أنه لم يغتنِ. وحسبه أنه ما تنازل يوماً عن قيمة فنية أو معيار، فرفض التعامل مع فنانين وفنانات كبار لم يروقوا له، ولم يقتنع بأصواتهم على الرغم من “نجوميتهم” والمغريات المادية التي قدّموها. وحسبه أنه كان يجهر بموقفه، فلم يقلع عن حبه من يخالفه الرأي السياسي. وحسبه أنه كان في طليعة من أعادوا التواصل مع كل لبنان، ولا سيما مع بيئته حيث نشأ، في أنطلياس والرابية وبكفيا، ما إن وضعت الحرب أوزارها عام 1990، فكان يد مصالحة صافحت وغفرت ولم تعادِ أو تحقد. وحسبه أنه اضطره الواقع المعيشي، إلى التخلي عن مشروعه الحلم: الانصراف التام إلى الموسيقى وحدها، ليلحن، فاضطر أن يكتب ويمسرح ويعزف ويقيم حفلات هنا وهناك. وحسبه أنه خرج من عباءة والده، لا من جوهرها، أصالةً وإتقاناً وقبضاً على مكامن الجمال، فسلك خطّاً موسيقيّاً غنائيّاً رؤيويّاً، تبعه كثر وأحبَّه كثر. وحسبه أخيراً أنه اقتحم مناطق في صوت فيروز كان الأخَوان رحباني يتجنبانها، فألبسها ألحاناً زادت إلى ملائكية صوتها، سماء سابعة، وجعلها تغني بلغة الناس أكثر، بعيداً قليلاً من شاعرية الأخوين، فـ”كان غير شكل الزيتون والليمون”، وكان “أهدى الكميون”، و”ضاق خلقي يا صبي”، و”طيب أنا عم قلَّك اشتقتلك”.
زياد رحباني المفكر والإنساني والرؤيوي هو من نفتقده، لأنه في كل إطلالة، ولو عابرة، كان يأتي بجديد، أما أعماله الموسيقية والغنائية والمسرحية فباقية في الزاكرة والوجدان، ولأجيال وأجيال، لأنها نابعة من صدق وإخلاص وشغف واحترافية وحب للجمال، ولأنها أعمال عبقرية. باقية نعم، ولا يستغربنَّ أحد أن تردد تلك الأعمال بصوت فيروز، وهي تدل على زياد: “بكرا برجع بوقف معكن، إذا مش بكرا البعدو أكيد”، وإن سبقتها جملة “لكن بالآخر في آخر، في وقت فراق”.ِ
المصدر: الصفا