يعتبر الروائي الجزائري واسيني الأعرج رواية «دون كيشوت» رواية جزائرية، لا بمعنى أنّ كاتبها جزائري، وإنما لأن جزءاً مهماً من أحداثها يجري في الجزائر؛ لأن مؤلفها ميجيل دي ثرباتيس سابدرا، أو سرفانتس كما اعتدنا نحن العرب لفظ اسمه، كان جندياً سابقاً في الجيش الإسباني حين وقع أسيراً لدى الأتراك، عندما هوجمت سفينة كان على ظهرها في البحر الأبيض المتوسط، وأخذ إلى الجزائر التي قضى فيها خمس سنوات سجيناً، وكانت الجزائر يومها مركزاً لأعمال البحرية التركية والإسلامية بعامة.
خرج سرفانتس من سجنه بفدية مالية، لكن الفترة التي قضاها هناك كان لها أعمق الأثر في نفسه وفي إنتاجه، ففي «دون كيشوت» فصول تدور أحداثها في الجزائر، واتخذ من تلك المدينة فضاء لأحداث فاصلة وشائقة، خاصة أنه ظفر بقسط من معرفة اللغة العربية فترة أسره.
ستدخل «دون كيشوت» تاريخ الأدب العالمي، بصفتها درة من درر هذا الأدب، لها من المقام ما ل«الإلياذة» لهوميروس و«الكوميديا الإلهية» لدانتي، و«فاوست» لغوته، فضلاً عن أعمال شكسبير الكبرى. وقد نشر سرفانتس الجزء الأول من رائعته تحت عنوان: «النبيل البارع دون كيخوته دلامنتشا» في مدريد سنة 1605. وقال في استهلاله للرواية، إن القصد منها «ليس إلا كبح، بل تحطيم ما لكتب الفروسية من تأثير وسلطان عند عامة الناس». أراد الكاتب من ذلك أن يكون جسراً للسخرية من العصر الذي عاشه بكل مخازيه الاجتماعية والسياسية والإدارية، وما يعجّ به من رذائل ونفاق ودعاوى زائغة في الآداب والأخلاق، دون أن يجعل من السخرية ذاتها هدفاً، وإنما وسيلة تعبير عن الاحتجاج.
قال «دون كيشوت» عن نفسه في رائعة «سرفانتس»: «أنا عاشق. هذا صحيح؛ لأنه يجب على كل فارس أن يكون عاشقاً، لكني لست من أولئك العشاق الفاسدين، فأنا أحبّ حباً أفلاطونياً عنيفاً. حين طلبت منه الدوقة، وعلى سبيل التسلية، أن يصف لها حبيبته قال هذا القول الساحر: سيدتي! لو كان في وسعي أن أنتزع قلبي، وأن أعرضه أمام عينيك هنا فوق هذه المنضدة، وفي صحن لأعفيت لساني من مؤونة وصف ما لا يكاد يتصور؛ لأنكِ سترينها مرسومة على الطبيعة في هذا القلب العاشق».
إنه، إذاً، فارس يريد أن يحطم زيف الفروسية، وهو عاشق يريد أن يحطم زيف الحب. إنه شخصية متعددة الأوجه تريد أن تُحطم الزيف على أنواعه، وهو بهذا المعنى لم يكن يحارب طواحين هواء ولا جيوشاً متخيلة، بل يحارب عصراً متفسخاً؛ لذا فإنه فعل ما فعله وسيفعله كل «الدونكيشوتيين» قبله وبعده: يربحون أنفسهم حتى لو خسروا العالم.