لا أذكر الآن اسم الرواية التي قال فيها الروائي السوري الراحل حنا مينة، على لسان بطل الرواية، الذي كان كاتباً إن لم تخني الذاكرة، إن سيدة تملك «شاليه» بمحاذاة ساحل البحر، اقترحت عليه أن يقصده ليختلي فيه إلى نفسه وينصرف إلى كتابته، ولكن في الخريف، بعد أن يعود المصطاف٠ون إلى المدن والبلدات التي أتوا منها، ويصبح المكان هادئاً، وسعت المرأة، ما أمكنها، لتزيين الفكرة في عينه، وما أذكره أنه لم يحبذ فكرة العزلة، وقال إنه يجد نفسه أكثر وسط الناس وضجيج الحياة.
ما نحن بصدده ليس خلوة كاتب في كوخٍ أو «شاليه» أو ما إليهما، وإنما بصدد فكرة السفر في الخريف لا في الصيف، كما جرت العادة، خاصة لمن هم في مرحلة التقاعد غير الملتزمين بمواعيد العمل، ولا بمدارس الأولاد، ولمن يعيشون في بلدان لا تعرف الخريف الحقيقي، حيث تتساقط أوراق الأشجار، وتتحول الغابات الخضراء إلى مساحات صفراء، مذكرة إيانا بأغنية فيروز «ورقو الاصفر شجر أيلول»، ذلك الورق الذي يتحول إلى «ذهب مشغول»، لعله نفسه الذي حدا ببابلو نيرودا إلى السؤال في نصٍ عذبٍ له: «لِم يُنفقَ الخريف/ كلَّ هذه النقود الصفر؟».
في الخريف، إذا استطعتم، اقصدوا بلداناً تعيشه. ستبث نسماته الرقيقة في نفوسكم البهجة، وستدفئكم شمسه الرحيمة، ولا بأس لو تساقط رذاذ من المطر الخفيف، الذي قد تتوارى الشمس بسببه، كامرأة خجلى، لكنها لا تغيب. وسيكون المشهد مبهجاً أكثر لو جاورتم نهراً تتدفق مياهه من قمم الجبال، صانعة لنفسها مجرى ممتداً لبقايا ثلج الشتاء الفائت الآتي من الأعالي، وسيأتي خرير الماء إلى آذانكم كسيمفونية عذبة وأنتم لم تبلغوا ضفته بعد.
اصعدوا إلى مرتفعات تتآخى فيها خضرة الشجر واصفرارها، فيما يشبه مشهد الوداع؛ تودع فيه الصفراء منها الخضراء بحنوٍ، وداعاً ينتهي بوعدٍ عن لقاء في العام القادم في نفس الوقت، مُذكّرة إيانا، مرة أخرى، بنيرودا وهو يخاطب حبيبته في نصٍ آخر: «أتذكركِ مثلما كنتِ في الخريف الفائت/ قبعةً رماديةً وقلب هادئ/ في عينيكِ تتقد ألسنة الشفق/ وتسقط الأوراق في مياه روحك».
وفي مديح الخريف كُتب الكثير من عذب الشعر والنثر. الخريف هو الفصل المحبب لشاعرٍ كبير بقامة ألكسندر بوشكين، وعنه قال: «أي غرابة فيكَ أيها الخريف، تجعل من حزنك يشبه يوم فرحي»، وقال كاتبنا المصري رجاء النقاش إنه «يحبّ الخريف ويهواه ويفضله على غرور الربيع وقسوة الصيف والشتاء»، فالطبيعة في الخريف «لا تنام ولا تموت، كما يتراءى للعين، إنما تعود إلى ذاتها، وتساعد للبداية من جديد».