د.علي حجازي
نشر ابن أخي على صفحته على سبيل المزاح
“للبيع سكربينة ستّي ، مستعملة خمساً وستين سنة فقط…”
فكتبت
عند اللحظة التي انتهيت فيها من قراءة المنشور أحسست بماء ثلجيٍّ يندلق على جسدي، بل بإصابة بالغة من رامٍ لا يعرف قساوة وقع الكلمات في الأرواح
انتظرت قليلاً، رحت استعيد فيها معاناة أمّي التي لا توصف ، وأخذت أردّد بعفوية
– لا … لا … فهذه السكربينة المعروضة الآن ليست للبيع يا ابن أخي ، لأنّها تؤرِّخ على صفحة جلدها ونعلها مجازر المعتدين علينا وعلى أرضنا، من صلافة الأتراك وظلمهم وجهلهم ، وعدوانيّة الفرنسيين وقساوتهم، وصولاً إلى عدوانيّة الصهاينة الذين تفنّنوا في ارتكاب المجازر والتدمير والاعتقالات من حولا والعباسيّة وتولين والنبطية وصريفا، وقبريخا إلى قانا وأخواتها جميعاً وما بعد قانا ، فضلاً عن إهمالات السلطة التي لا تعدّ ولا تحصى
هذه “السكربينة” حقول بلدتنا والبلدات القريبة تعرفها ، الحندقوقة وجل القطن والمرج ، وأحراج وادي الميس ،و الرصيف والسلوقي والأودية الأخرى،وصولاً إلى الليطاني عند جسر القاقعيّة تعرفه
المطاحن المنتشرة على ضفاف نهر الحجير تعرفها، لأنّ أمي وخالاتي ونساء بلدتنا والبلدات المجاورة الأخرى، رحمهنّ الله . كنّ يطحن القمح ويخبزن مشاطيح الجريش ، وكنّ يأتيننا بالحطب والبطم والزعرور والشبرق وثمار البلوط التي تُطحن عندما يعزّ وجود القمح
يا ابن أخي الحبيب ، أعلمك أنّني اشتريتها منك الآن ، مهما غلا ثمنها ، لأحتفظ بها ما دمت حيّاً ، ولتبقى تذكّرني بنضالات أمهاتنا وكفاحهنّ في التحرير ، فهنّ مع نساء الجبل العاملي والبقاع الغربي قطفن الزيتون ، واستخرجن الزيت الذي أبدعن منه ” الزيت المغلي” سلاحاً حارقاً يلسع رؤوس المحتلين وعملائهم، وهن تعبن في سبيل تربيتنا.وأمّي ، رحمها الله ، لبستها خلال حمل الواحد منّا إلى عيادة الحكيم في المجدل أو الطيبة او صور
يا حبيبي . لا أنسى صوتها عند غروب ذلك اليوم الذي تأخرنا فيه، خلال عودتنا من مدرسة خربة سلم ، بسبب المطر الشديد الذي فرض علينا الاحتماء ببيوت الصوّانة والتامريّة
صوتها العذب تناهى إلى سمعنا في ذلك الغروب الماطر الذي بلّلها وهي تسعى جاهدة للاطمئنان إلى سلامتنا
ياااا علي ياااا علي يا حبيبي … أجمل كلمة سمعتها من فمها وهي تنادي من المرج باتجاه درب الصوّانة. وأخبرك أنّ دموعي سبقتني لحظتذاك إلى الردّ عليها ، وعند وصولي إليها ، احتضنتي فبكيت عندما تلمّست ثيابها التي تقطر ماء ، انحنيت لأقبّل قدميها فمنعتني ، غير انّني أدمت النظر إلى تلك السكربينة الغارقة في الوحل ،فأحسست ان جلدها يحنو على قدمي أمّي ، ذلك المشهد لا ينسى
…وأذكر لك ،أنّ أمّي كانت تنزل عند إلحاف والدك الذي يطلب إليها أن تخيط له رغيف الخبز ،خبز الصاج الذي مزّقه ، فتعيده بعد خياطته بتلك الماكينة التي كانت تخيط لنا بها محافظ الكتب والدفاتر ، وألبسة أخرى
ابن اخي الحبيب ، أنا قادم إليك على عجل ، وأنصحك ، قبل وصولي إليك لاستلامها ، ووضعها في علبة زجاجيّة شفّافة تليق بها، أن تحكّ جلدها قليلاً لتفوز بخلطة سحريّة عجيبة من الروائح الأخّاذة المحبّبة من الزعتر البرّي والزوفا والريبوخ والخزامى والوزّال والقندول والبلّان، الممزوج برائحة حبوب البطم وشتلات مساكب التبغ ، المغلف بعطر التراب بعد الفلحة الأولى، ورائحة شواء الفريك وعرانيس الذرة ، وغبار التبن التي يعبق في الأنوف لحظة التذرية بقصد فصله عن القمح والقصل والزؤان
أجل سأحتفظ بها في علبة شفافة ،وأُعلي مرتبتها في أعلى رفٍّ من مكتبتي، لتبقى تذكّرنا بجيل من الأمّهات والآباء مضى إلى جنان الله ، ولن يتكرّر ثانية أبداً ، ولتعلِّم الأبناء والأحفاد والذراري أنَّ حقّه عليهم واجب في حفظ مآثره الخالدة ، وكفاحه المبذول في سبيل تحريرهم ، وتطهير الأرض من الطامعين بها لتبقى حرَّةً أبيّةً تشعُّ فرحاً وسعادة على الأقربين من أبنائها والأبعدين على السواء
قبريخا – جبل عامل في 18/7/2023
غرفة 19
- الحياة والمحبة والتعلم: ثلاثية متكاملة
- صرخةُ قلمٍ باحث عن كلماته الضّائعة
- “ظلالٌ مُضاعفةٌ بالعناقات” لنمر سعدي: تمجيدُ الحبِّ واستعاداتُ المُدن
- الشاعر اللبناني شربل داغر يتوج بجائزة أبو القاسم الشابي عن ديوانه “يغتسل النثر في نهره”
- سأشتري حلمًا بلا ثقوب- قراءة بقلم أ. نهى عاصم
- الأدب الرقمي: أدب جديد أم أسلوب عرض؟- مستقبل النقد الأدبي الرقمي