وبنيتُ بيت أحزاني كوخاً خشبياً على شاطئ قرية صغيرة بعيداً عن الناس وعن الحياة. هربت إليها وقد تعبتُ من الترحال بعد أن أمضيت العمر تائهاً مشرداً في منفى اخترته لما تبقى من روحي.
كوخاً زرعته وروداً وفراشات، جدرانه صورٌ تجمعنا ولوحات، ولون أثاثه كل الألوان، ملأته حياة ليس لأجلي، فقط لأجلك يا صغيرتي.
كانت أيامي أنتِ، وعملي أنتِ، نومي وصحوتي، طعامي وشرابي، وكل ثانية تمضي من عمري معكِ أنتِ ولكِ أنتِ، وكل دواوين شعري كتبتها لأجل عينيك أنتِ.
كل صباح، كنت أستيقظ باكراً وأقصد المتجر الوحيد في القرية، وعندما يراني الشاب موظف المتجر أدخل من الباب، يبتسم ويسألني :
- كالعادة؟
أجيبه مبتسماً :
- كالعادة.
فيجهز الخبز الطازج لأجلكِ، فأنتِ تعشقين رائحة الخبز التي تذكّرك برائحة أمك. ويجلب الشوكولاته الداكنة المرّة المذاق، فأنتِ يا صغيرتي تعشقين القهوة المرّة والشوكولاته المرّة مع أنك تقطرين سكراً وعسلاً.
في إحدى الأيام استجمع الشاب جرأته وسألني :
- سنوات مضت وأنت تأتي لمتجرنا كل صباح وتأخذ الخبز الطازج والحلوى لزوجتك ولم يصادف أبداً أن رأيتها معك.
أجبته وأنا مستاء من فضوله :
- جميلتي لا تحب الاختلاط بالناس، فهي كاتبة وتمضي معظم وقتها في القراءة والكتابة.
وأنا أقصد باب المتجر هرباً من سؤال آخر.
بلهفة سألني :
- كاتبة ! ما اسمها ؟
كنت أرتاح لذلك الشاب، ملامحه بريئة وطيبة قلبه ظاهرة على وجهه، هو الشخص الوحيد الذي كنت أبتسم في وجهه بعدما سكنتني الدمعة.
أجبته وأنا أفتح باب المتجر :
- حبيبتي وصغيرتي وملكتي وجميلتي وامرأتي.
- عندما تتحدث عنها تلمع عينيك ويرتجف صوتك.
أجبته مبتسماً :
- ويرقص قلبي بين أضلعي.
حبي لها أثار حشريته أكثر، فسألني :
- تغار عليها لهذا لا تسمح أن يراها أحد؟
وأكملت مبتسماً :
- أغار من انعكاس صورتها في المرآة، هكذا يكون الحب.
أدرت ظهري ناهياً الحديث قاطعاً عليه أسئلته، فإذا بصوت الشاب يستوقفني كرصاصة استقرت في الروح.
- الناس في القرية يقولون بأنك تعيش في الكوخ وحدك، وأن امرأتك ماتت منذ سنوات مضت.
أجبته غاضباً متألماً :
- هم الميتون صدقني.
وخرجت من المتجر حزيناً ، سنوات مضت وأنا أهرب من خبر موتها، من واقع رحيلها، من ألم فقدها. وأنا أهرب من الناس وأسئلتهم وفضولهم. وأنا أُسَكِّنُ احتضاري بذكراها، بحياة خيالية عشت تفاصيلها وأحاسيسها معها وحدها.
وصلت يومها إلى كوخي متعباً ، قطفت لها وردة جورية حمراء وحضرت قهوتها الصباحية، وبقبلة على خدها أيقظتها.
- صباحكِ سكر.
مسحت بيدها على رأسي وسألتني وهي تتأمل وجهي :
أرى عينيك حزينتين وكأنهما تحبسان دمعة.
أجبتها كطفل يشكو لأمه تطفل أولاد الحي ومضايقتهم له:
- لن أذهب إلى ذلك المتجر بعد اليوم.
سمعت صوت ضجيج سيارة في الخارج، تفاجأت فأنا غريب في القرية، لا أعرف أحداً ولا أسمح لأحد أن يقترب من عالمي الخاص. خرجت لأرى من كسر حواجزي واجتاز حدودي ، وإذا به الشاب موظف المتجر يقف عند باب كوخي.
صرخت في وجهه غاضباً :
- ماذا تريد؟ لماذا أتيت إلى هنا ؟
- أردت الاعتذار منك، آذيتك بكلامي.
– اعتذارك مقبول فقط ارحل من هنا.
– حسناً سأرحل.
ورحل الشاب كما أتى بفضول نهم لاقتحام حياتي، ذاكرتي، حطامي.
تعبت يومها كثيراً، وكأن عاصفة حنين ضربتني فجأة، منخفض جوي اجتاح كياني، أمطار وصواعق اهتزت لها ذاكرتي فانفجرت معها كل معاناتي.
مرضت ولازمت الفراش لأيام لم أقوَ فيها على الحركة، وكانت حبيبتي تداوي روحي وتبلسم آلامي. كان الجو عاصفاً ، المطر ينهمر بغزارة والبرق يلمع في كل الأرجاء وقد امتزج صوت الرعد مع صوت البحر الهائج.
وعاد الشاب العنيد ليطمئن علي، وقف خارجاً ونده عليّ، لم أقوَ على النهوض من فراشي ولم يصله صوتي الضعيف. طرق باب كوخي مرة وأخرى وأنا منهك القوى ضعيف البدن، فتح باب أحزاني ودخل بلا استئذان. لأول مرة منذ رحيلك يتجرأ أحدهم ويطرق باب وجعي.
صرخت في وجهه، حاولت النهوض لكن خانتني قواي :
– أنت ! من سمح لك بالدخول؟
ركض نحوي وبقلق قال لي :
- قلقت عليك، ما بك؟ هل أنت مريض؟
قلت له بصوت ضعيف :
- لا ، ارحل من هنا.
- سأرحل ولكن دعني أساعدك أولاً، هل ذهبت إلى الطبيب ؟
قلت لك ارحل، دعني وشأني، لا حاجة لي إلى الطبيب.
- سأحضر لك طبيباً ليكشف عليك، سأعود حالاً.
وخرج العنيد دون أن يوقفه صراخي، دقائق وعاد ومعه الطبيب، فحصني وطلب نقلي إلى المشفى لأني مصاب بحمى. رفضت وبالرغم من محاولات الطبيب لإقناعي لم أقتنع، فاقترح العنيد أنه سيهتم بي ويعطيني الدواء بانتظام، رضخ الطبيب لإرادتي وترك بعض الأدوية المسعفة في حال ساءت حالتي كثيراً، ورغماً عني قبلت.
في الليل وبعد أن أعطاني الدواء وأطعمني بيده حساءً أعدّه لي، جلس بجواري، سألته :
- ماذا تريد مني؟ ما سر اهتمامك بي؟
- فقط أريد مساعدتك.
- ولماذا تساعدني ؟ ماذا تعرف عني لتساعدني؟
- لا يهمني من تكون، أعلم أنك تتألم.
- وماذا تعرف أنت عن الألم؟
- عرفني إذاً ، أخبرني عن سرّ الدمعة المختبئة بين جفونك.
- لا تحاول، أنا هجرت الكلام منذ زمن بعيد.
- ماتت ؟
- اصمت.
وقف وأخذ يتأمل صورنا المعلقة على جدران الكوخ.
- ارحل أرجوك. قلت له.
- يبدو أنك كنت تعشقها.
- وما زلت.
- احكِ لي عنها أرجوك، أخبرني عنكما عن حبكما وعشقكما.
- لِمَ تُصر على معرفة قصتي؟
- لأعرف سبب غربتك، سبب وحدتك، هجرك للناس، للحياة، للفرح. لمن تجلب كل يوم الخبز الطازج والحلوى؟ أين هي زوجتك ؟ كيف تقول إنها تعيش معك؟