تائهاً مَرِحاً ماراً في زواريب بيروت القديمة، فإذا بي أقف مذهولاً أمام لوحة فنية ساحرة. عمارات شاهقة تتراقص أنوارها في الليل كنجوم ساطعة، وطرقات تعكس ألوان قوس قزح في عينيّ. بهذا المشهد وأكثر جمالاً، وقفت أراقب عُذرِية بيروت وجمال لياليها وليلِها.
عاشقاً أعيش نهارها ولياليها، ليكون النهار الصخب بالمارة، والأشخاص المنهمكين بالذهاب إلى عملهم، ساعين وراء قوتهم اليومي. والمارة بقرب من مكان عملي ليلقوا التحية الصباحية علينا، بينما أنا وجيراني في العمل نجتمع على طاولة خشبية صغيرة، وُضِعت سهواً! نحتسي القهوة في فترة الصباح “الصبحية” ورائحتها المميزة، مجتمعين حولها نهاراً، لتبقى في مكانها ليلاً وإلى يومٍ آخر، يكسوها عدة ألوان، مكسرة الأطراف، لا تشبه أي طاولة في أي من مكوناتها، إلا أنها تجمعنا جميعاً! جميع من في الحي، وكل يوم، لتجلب الأخبار لنا جميعاً! لتنتهي هذه “الصبحية”عندما يصيح الزبون “وين أغراضي” معلناً مجيئه لاستلام طلبه، ليبدأ نهار العمل!
سَقَطّتُ!
إنتهى هذا النهار حاملاً معه همومه ومشاكله عند كل غروب للشمس! متوجهاً إلى بيت أهلي، وهو في منطقة قريبة من مكان عملي، والذي كان قد أسسه والدي رحمه الله، حريصاً على أن أكون على قدر المسؤولية الكبيرة التي أحمل، مسؤولية الحفاظ على هذا الإرث النبيل، متمنياً أن أكون قدوة لأبنائي كما كان هو لي. فأنا مازلت ليومنا هذا أسمع من المحيطِ الذي أعيش فيه، ومما بقيَّ من رفاقه على قيد الحياة، كم كان رجلاً مُعطاء، مُحِب، حَنون، وصادق، والعديد من الأمور الإيجابية. ليكون هذا الكلام الجميل، هو بمثابة تحفيز لأستمر في العمل بنفس المهنة التي تعلمتها منه، وبنفس العطاء. لم يسنِحَ لي الوقت لأقف أمامه وأشكره كما يجب، لا أدري أكان خجلاً أم خوفاً. بل متأكداً أن السبب هو من عظمته وهيبته! ولكنني غَدَرتُ الزمن يوماً واستطعت أن اقبّلَ يده لأطلبَ منه بركته. وهذي كانت وسوف تبقى زوادتي اليومية، فكبريائي أنا قد جاء منه ولم يُدرِكَ ذلك. فما كان قد أسس في مسيرته العملية والاجتماعية، من حسن أخلاق، وسمعة طيبة، فهنا يكمن كبريائي، لأمشي مَرفُوعَالرأس بأني ابن ذلك الأب المميز.
وصَلتُ إلى بيت أهلي، وصَعدُّ السلالم القليلة، التي تفصله عن الطريق. طَلبتُ من أختي أن تحضر لي، لا بل أن تساعدني في تحضير بعض العصير والقهوة، والقليل من الحلوى، لنجلس على الشرفة لأرتاح من تعب ذلك النهار.
تشاركنا تلك اللحظات الجميلة، أنا وأختي على الشرفة المطلة على الطريق العام داخل المدينة،ودارت الأحاديث التي تذكرنا بأهلنا رحمهم الله، ولم يَمُرَ يوماً إلا وذكرناهم، كم كانوا أشخاص مهمين في حياتنا، وكم كانوا القدوة التي نمتثل لها. ارحمهم يا الله!
انقطع الحديث والجلسة الهادئة وضحكات أختي، بصراخ مني نحو الشارع. وكل ما سمعته هو صراخ الإطارات وانكسار الزجاج! عندما صدمت سيارة شاباً صغيرَ العمر على دراجته النارية، وكان يحاول الفرار. عندها هرعوا من كانوا واقفين على الطريق، لإيقاف تلك السيارة وبعد عدة محاولات تمكنوا من ذلك. وأنا كنت قد نزلت بسرعة البرق على بقعة الحادث، وفي طريقي اتصلت بالصليب الأحمر واعطيتهم المعلومات اللازمة وكيفية الوصول إلى ذلك الشارع.
وصلت ولم أعد أدري إن كانت المسافة طويلة أم أنا من تَقَصّدَ التأخير! توقفت الدنيا للحظة. اندَفَعتُ نحو الحشد، قلبي يدقّ كطبول الحرب، وأنا أحاول جاهداً أن أؤمن بأن ما أراه ليس حقيقياً! الشاب ملقى على الأرض، والدم ينزف من جرحه كشلال أحمر، شعرت بالغثيان يغزوني، وكأن العالم قد انقلب رأساً على عقب. جلبوا المعدات فريق الإنقاذ الذي لبى الدعوة في الحال، وبتقنية وثقة وخبرات عالية، بدأوا العمل على الشاب الصغير المصاب، فأنا كنت من التزم مع الصليب الأحمر فريق الإنقاذ بتلك المهمة من بين الحشد الكبير الذي تجمّعَ. إلى أن!
سَقَطّتُ خجلاً!
دقت ساعة السقوط! تجمّدت الأنفاس لحظة رفع المسعف الشاب المصاب، ليَضَعه على الحمالة المخصصة. شاهدت ما لم يكن بالحسبان.
عيناه، اللتان كانتا تتألقان بالحياة منذ لحظات، انطلقتا من محجريهما كطيرين مفزوعين!وكَثُرَ سيلان الدم منهما ومن إصابته، كحنفية فُتِحَت وبِضَغطٍ كبيرٍ! شعرت بالدوار يغزو رأسي، وكأن العالم يدور بي، لم أتمالك نفسي، ولم أستطع تحمل فظاعة المنظر، وصغر سن الضحية! استَدَرتُ بلحظتها تاركاً بقعةَ الحادث، عائداً إلى المنزل.
خجلاً!
تداعت قواي، وباتت كل خطوة أشبه بتسلق جبل، إلى أن وصلت للباب الرئيسي للمبنى،نَظَرتُ إلى الأعلى لأطلب من أختي التي كانت واقفة على الشرفة منذ وقوع الحادث وهي بعيون دامعة، بأن تفتح باب المدخل الحديد الموصد. وأنا متوجه نحوه بتمايل وانزعاج، شعرت بدوار يلف رأسي كأنني ثمل! التفتَ إليَّ شاب كان واقفاً بالجوار، هرع ليفتح الباب. وما أن وطأت قدميَّ داخل المدخل، اهتزَّ جسدي، فإذا بي أغرق في بحر من الدوار والألم. وبعد خطوتين سَقَطّتُ أرضاً، وكأنني شجرة اقتلعت من جذورها. سمعت صوت عظامي تتكسر، وشعرت ببرودة الرعب تسري في عروقي،ويدي اليسرى التي حاولت انقاذي من السقوط، ولكنها لم تفلح، بل تحطمت هي ايضاً.
فتَحتُ عينيّ لأجد أختي تقف أمامي وقد عَلَت ملامحها الذهول والحزن، لتجدني قطعةً مهمشةً على الأرض.
وبمساعدة شخص آخر استطاعوا إيقاظي لأصل إلى المنزل في الطابق الأول.
خجلاً!
وفي اليوم الثاني، استيقظت من شدة الألم الذي كان يعتصرني كأنني محطم إلى آلاف الشظايا! لكنني لم أستطع النهوض من الفراش، كأنني سجين في جسدي هذا! ومن هول ما حدث من ذلك الحادث المشؤوم.
الم أقل لكم “خجلاً” نعم هذا ما حدث، أنا الذي كنت أقف شامخاً، أسعِفُ الجرحى وأنقذ الأبرياء، أنا الذي حملتُ على عاتقي أعباء الآخرين، في حقبة الحرب الأهلية، التي وقعت في بلادي.
ألم أقل لكم “خجلاً” فأنا من كنت أتواجد لأكون أول الواصلين، وقت وقوع الانفجارات اللعينة، وعند إطلاق النار، لإنقاذ المصابين. لأصبح اليوم عاجزاً عن مساعدة نفسي؟
ألم أقل لكم كيف؟ وماذا؟ فعلنا يوم الشدائد بتلك الأيام السوداء، التي مرت على وطني حبيبي!
خجلاً! سَقَطّتُ وتحطمت، ولكن كبريائي لم يَسقُطَ قط! ولن يَتَكَسّر مهما حدث ومهما كانت المواقف صعبة وأليمة.
ولكني سَقَطّتُ خجلاً للإنسانية ومع الإنسانية.