قراءة نوعية عميقة في غاية الجمال والدهشة لديوان “استعارات جسدية” بقلم الشاعرة التونسية المبدعة لمياء القفصي..
شاعرٌ يولدُ من مجازهِ
دندنة فلسطينية تأتينا على شفاه الغيم، مبللة بندى الجليل، محمومة بالرمز، مقطوفة من حدائق البلاغة، منثورة في مروج الشعر حيث تورق الكلمات في جسد القصيدة “فترقص على وقع أنغام غير مسموعة”
موسيقى الروح يعزفها الشاعر نمر سعدي بايقاعات قلبه، بتمرده وثورته ووحدته وغربته.
كالطير غنى فأشجى كل إحساس في ديوان شعري فيه شيء من السحر والغواية.. غواية القصيدة، المرأة، والحياة. وسمه نمر سعدي ب “استعارات جسدية” عنوان يعج بالرمزية، والجمع بين الأضداد.. المجرد والمحسوس. الجسد بحضوره المادي والاستعارة بحضورها الرمزي. بينهما يتجلى المعنى المغيَّب الذي سيقودنا إليه الشاعر في فهم حقيقة الجسد القابع خلف المعنى، في مشاهد سريالية تسحبنا للامعنى و تجسد المفهوم الثنائي للجسد، الجسد محط الإثارة والاغواء والجسد مجازا ولغة ورمزا.
يهدي كتابه إلى “الوحيدات” ليلقي بنا في حيرة وارتباك.
لماذا الوحيدات؟ ومن هنَّ؟ هنَّ اللواتي يعشن في أفق ضيق يكابدن عناء الذات التي غارت عميقا في سرادقها وسراديبها في كهف العزلة مسلِّمة للوحدة. إهداء مطعَّم باحساس الشاعر بخلجات النساء الوحيدات و مفتاح ولوج إلى عالمهن.
“الوحيدات يحتجن تقليم لبلابهن المراوغ قبل أظافرهن وتأجيل معنى الفراغ”
ليكون لهنَّ دفء الخاطر، وعودة الروح في دهليز منعزل. خاتم ثمين يهديه نمرسعدي للوحيدات لعقد القران مع الحياة خارج أسوار الذات.
من الصمت تصدح قصيدة نمر سعدي بصوت الذات الشاعرة، بآلامها وتشظياتها، تخط نزيفها واشتهاءاتها في صورة امرأة بما تحمله من سحر وفتنة ودلال.
“قصيدتي امرأة صامتة لا تصهل كأحصنة نزار قباني”
أنثى عنيدة يراودها الشاعر كي يعيد الذات إلى مسرى الحياة.
“أنثى كما قلت لكنها لا تطاوعني
كم سمعتُ صليل خطاها وكم ذقتُ صلصالها، مطر في يديها في قلبها.. مطر في أصابعها وبأخمص ناياتها، مطر في دمي”
“مطر أنثوي” يسري في عروقه ليروي عطش روح رازحة تحت سياط الألم والعناء والحب.
“الحب وردة تتفتح في الدرك الأسفل من الجحيم”
روح تهفو إلى الحرية والحياة لإعادة التوازن المفقود المضرج بالأسئلة .
“ماذا تريدُ من الحياةِ أو القصيدةِ؟ قالَ لي أحدٌ، أجبتُ بلستُ أدري”
حوار قلق وتوتر وجودي يطرح أسئلة أنطولوجية عن قضايا تؤرقه وتغوص عميقاً في فكره لتبين لنا علاقته بالقصيدة والحياة، والمرأة ، بالحب، الشوق.. والغياب.
“سأرمي ورائي خريف الغياب فردي دمي من خراب الحنين”
رحلة بحث الذات المسكونة بالوجع عن معنى وجودها.. متأملا في الكون ومعانيه الإنسانية
فلا يجد لها أجوبة تشفي أنين النفس وتساؤل الروح الحائرة إلا في عالم الشعر، “لستُ أرى طريقاً لا تقودُ إلى القصيدةِ أو إليَّ”.
سبيله للخلاص من فتنة التيه وألم الانكسار وظلم الحياة.. “الحياة متاهتي الكبرى
ولكني أحاول أن أكون وأن أغني”
ألا يذكرنا هذا بالعبارة الشهيرة للشاعر الانجليزي وليام شكسبير التي جاءت على لسان هملت في المسرحية التي حملت اسمه “أكون أو لا أكون”. هذا هو السؤال وقد أجاب عنه نمر سعدي
باختيار محاولة الوصول إلى اليقين وإثبات الذات في الوجود. مقتفيا أثر الناي ليغني شغف الحياة ووجعها.. شجن الذات وجراحاتها.. “ألم يقل المعرِّي أن الحياة سهد إضافي”.
يذكرنا بالمعرِّي وغبار الوجود. تبنِّي لفلسفة أبي العلاء المعرِّي ذاك الذي تحجرت آلامه في الأحداق فبكاها في أشعاره حزنا وألما وسخطا على الحياة والانسان، فهو القائل “تعبٌ كلها الحياة فلا أعجب إلا من راغب في ازديادِ”
نمر سعدي شاعر يجوب الآفاق وهو قابع في عزلته، متوحد مع ذاته يتنقل بنا في هذا الوجود الفسيح الغامض فيهتك الكثيف من أستاره والغامض من أسراره فلا تدري أأنت في عالم الشعر أم في عالم الفكر.
“هذي الحياة قصيدة لا تنتهي أو لعبةٌ.. وجعٌ إضافيٌّ ظلامٌ ناصع، أبدٌ، نهارٌ مشمسٌ.. قيلولةٌ ما بين كابوسينِ، لا أدري”.
شاعر “يولد من مجازه” في رحلة البحث عن ألق العبارة التي تلامس قلق الذات و حيرتها، وتولد قصيدته حسناء فاتنة، تتلوَّى بين أنامل عاشق ولهان يغازل أنثاه، ويطبع على خدها قبلة حب.. قبَّلها كامرأة جميلة قبل تلويحة الوداع.
قصيدته “امرأة ترقص على وقع أنغام غير مسموعة” هي ايقاعات قلبه ونايات حبه وأنثاهُ قصيدة، و”مهرة جامحة ” تصهل خارج السياج.
“ليس من عادتي أن أسجنها في قلبي مكسر السياج والعربات
تعلمت أن أضع فمي على وجهها هامسا لها برفق “كم أحبك”
ثم أفتح لها بوابة جسدي السماوية”.
رغبة جامحة بالعودة إلى حالة الانسجام الفطري بين الروح والجسد. خلق حالة من التوازن بين السماوي والترابي في الذات الساعية للوصال بعيدا عن احتفالية الأرض.
يفتح نمر سعدي رؤاه على أقاصي رحبة فاتحا للجسد شرفات لا محدودة محررا المرأة من الأغلال والقيود.
حالما بالأنثى الرمز، الأنثى المعجزة، الموعودة في فردوس مفقود “أي فردوس لا أعرف ستكون فيه امرأة آتية باستمرار من الشمال كي أمنحها جسدها كي أمنحها كياننا كي أمنحها الحرية”.
فردوس يُنصَّب فيه الشاعر على عرش الحب “ملك العبادة والاستعباد”. لا حرية له خارج معبد العشق وسجن الحبيبة “حريتي خارج حياتك هي أفضع سجوني على الاطلاق “سجون تفتح” شباك القصيدة كي تطير أيائل المعنى” كما الطيور تحلق بعيدا في أفق ممتد غير متناهي
معلنا الخلاص في فردوس موعود. واهبا اللغة الشعرية رحابة المعنى وتوليد الدلالات.
هو ملك نصبته العبارة على عرشها، شاعر متيم بالحرف يمتلك زمام اللغة. يغزل أنسجة روحية بتفاصيل يومية واستعارات مجازية، تنفتح على صدى الصور، مما يعطي للقصيدة أفقا ينفتح على تيمات تقترب من اليومي والذات.
“استعارات جسدية” ديوان يفتح شرفات للقصيدة على صور الحياة وقلقها، سفر إبداعي في عوالم المرأة واستعارات حضورها.
هو ديوان يحفل بالاستيحاءات والانثيال الرمزي، لا يمكن فك طلاسمه والامساك بطرف خيطه.
قصائده “مربوطة بخيط كتان ملوَّن” تجلت لوحات سيريالية رُسمت بريشة فنان متكئا على خيال جامح. بذاكرة معاصرة وأخرى موغلة في الزمن تغرف من جرار الموروث الثقافي العربي والغربي والأسطوري والصوفي. شاعر أخذ من كل شيء بطرف “على حد قول الجاحظ” ليشبع شغفه الطافح للشعر ويفرغ شجونه على نبض “قصيدة رعوية تمتد حتى أبعد الخلجان” فيها من الجمال ما يستعصي على القبض، تهز وعي القارئ وتدفعه إلى البحث الانثروبولوجي قصد فك شفرات شعر يعانق الدهشة.