جلس الرجل -في العقد السادس من عمره – داخل غرفة الضيوف، يحيط به صمت ثقيل يقطعه صوت التلفاز كعادته، يتابع الأخبار ، حتى سمع جرس الباب يرن، فنهض متثاقلا، فطلبت منه زوجته الإسراع بفتح الباب، لعلّه أحد الأبناء، جاء لزيارتهما ، لكن لم يجد إلا أحد المتسولين، يطلب أرزا وحليبا، شعرت المرأة بالخيبة وضعت يدها على قلبها، تشعر بدقاته الضعيفة، وكأنها ترنيمة حزينة.
و عاد الرجل إلى مكانه مستلقيا على سريره وهو يحس ببرودة تدب في جسده، ليس برودة الطقس، بل برودة الوحدة التي أحاطت به ، وغاص في أعماق ذكرياته، الآباء والأمهات مهما كبروا أولادهم، لا يزالون يحملون همّومهم، منشغلين بوضعهم الاجتماعي و الصحي والأسري ، لكن الغريب في الأمر، أنّ البيت الكبير الذي تعب الجميع في بنائه، وشاركوا في وضع أولى قواعده الأساسية إلى الطابق الأول فالثاني، حتى الثالث أحيانا…،
صارت الدار مهجورة، الكلّ رحل، بعدما تزوجوا، وبعدما رزقوا البنين والبنات، فهناك من فضّل الإيجار و هناك من هو بلا عمل ورحل، ذلك البيت الكبير، بعدما كان عامرا، صار مهجورا، نسجت العناكب شباكها في كل زواياه، و حتى المصابيح صارت باهتة اللون، و الأبواب موصدة بالغبار، والحَوْش بأرضيته المبلّطة بالأبيض المنقوط بالسواد ، أرعب نباتات الزينة المحيطة به، فذبلت وتساقطت كآمال متناثرة هنا وهناك، فلم تعد هناك حركة بالدار، و غابت أصوات الأطفال الصغار وضحكاتهم ، حتى المطبخ، انعدمت فيه روائحه الشهية، و علا الصدى يهزّ جميل الذكريات،و خيّم الصمت، و الحياة صارت مملة،
بعد التقاعد، هكذا يخبر الرجل زوجته بنبرة حزينة: “لا توجد أماكن لتمضية الوقت، ولا أملك سيارة للتنقل وزيارة أصدقائي، صارت خطواتي معدودة و محسوبة، من البيت إلى المخبزة، و وقت الصلاة اتجه للجامع وأعود.”. تنهدت زوجته قائلة: “ما رأيك نبيع هذا البيت الكبير، ونشتري آخر صغيرا.”، نظر الرجل من حوله، إلى الأثاث القديم الذي يحمل معه ذكريات لا تُنسى، إلى الجدران التي شهدت ضحكات أطفاله و صراخهم. شعر بوجع عميق وهو يفكر في بيع هذا المنزل، الذي كان شاهداً على أجمل سنوات حياته. لكنه يعلم أن البقاء فيه يزيد من معاناته، و أولاده بعيدين عن البيت الذي كان يأويهم ويحتضنهم منذ أن صرخوا أول صرخة ” .
د. عمر شطة
السلام عليكم
قصة تتقمص شخصيات متقدمة في السن تحاول من خلالها أن تغوص في مشاعر الحنين والحزن من الفراق ومعالجة أدبية لجفوة الأبناء في علاقتهم بآبائهم وبركان الحزن المتفجر في نفوس هؤلاء الأخيرين بسبب ذلك البعد والجفاء ونكران الجميل وهي معالجة تقوم على عرض الاشكال وصدم وعي القارئ بمعاناة شريحة منسية من المجتمع . ارجو للاستاذ القاص عمر شطة المزيد من الكتابة الحكائية الجميلة
تحياتي للأديبة رئيسة التحرير السيدة إخلاص فرنسيس، عما تبذله من مجهودات في المجال الأدبي والفكري، و على تنوع مواضيعها التي تمس جميع المجالات و مختلف الأجناس الأدبية ، مراعاة لكل الأذواق الفنية…
خالص شكري وتقديري لمرورك، تحياتي وتقديري