بالأمس كانت خيوط الشّمس في الصّباح تدفئ كلماتي، وتنير ظلماتي، وكان النّسيم العليل ينعش همساتي، وضوع الياسمين يعطّر حروفي، ويقلّب الهواء تموّجات فكري، وينقلها من أعماقي ليمرّرها فوق الأثير، ثمّ يصفّها فوق أوراقي المتناثرة، وكانت الأشجار والأزهار تلوّن حروفي الدّاكنة فيزهر نصّي بألوانه السّاحرة، وتقهقه الرّيح في أعماقي، وتقلّب مواجعي وتدفنها في شقوق الأرض، في مثواها الأخير، عندها تبكي السّماء حبرًا ويهبني عطر المطرة الأولى انتعاشًا وسحرّا ، فتتساقط حروفي ضاحكة، وتشعّ كلماتي مدوّية بفرح الحياة فتتراقص بين السّطور بحضور ملفت ووقع آسر.
ما بك أيّتها الشّمس الناّعسة الدّاكنة؟ وأين أنت يا نسيم بلادي المنعش ؟ هل أثقلتك رائحة البارود؟ وأنت أيّتها السّماء، هل تلبّدت بمشاحر الدّخان الّذي يحرق البشر والشّجر والحجر؟ ويا عصافير بلادي هل سقطت شهيدة؟ وتركتنا ننام ونستيقظ على أزيزالرّصاص ودويّ المدافع وهدير الطّائرات؟ أين ضحكة الطّفولة وفرح الأولاد بالعودة إلى مدارسهم وصفوفهم المشتاقة لحضورهم لأصواتهم ولوقع أقدامهم؟ هل هرمت الطّفولة واتّشحت بملامح الحزن والقلق؟ أين هي حلقات الدّبكة والفرح ؟ هل تحوّلت إلى مجالس بكاء وعزاء؟ هل تفشّى الجوع والفقر؟ هل فقدت البيوت سكينتها وغرف المؤونة بركتها؟ أين هي تلك البيوت القديمة والحديثة في المدائن والقرى؟ هل تحوّلّت إلى ركام ؟ أين هم الآباء والأمّهات؟ هل فقدوا أرواحهم وتحوّل من بقي من أطفال بلادي إلى أيتام؟
ماذا فعلت هذه الحرب بنا؟ هل حوّلتنا إلى أرقام وأوهام؟ نترك بيوتنا الدّافئة المثقلة بالذّكريات والأحلام ؟ نهيم في بلادنا نازحين من منطقة إل آخرى بحثا عن السّكينة والسّلام ؟ نهرب من الموت وتلاحقنا أيادي الغدر في كلّ مكان؟ نترك أوطاننا غرباء ونتشتّت في أصقاع الأرض؟ صرخة نطلقها من بلد الأرز علّها تصمّ الآذان! وتحرّك الضّمائر الحرّة في هذا الزّمان.
أين أنتم أيّها المدافعون عن الإنسانيّة و الإنسان؟ هل صرنا وقودًا لحرب غاشمة تدكّ معالم الأوطان ؟ وتنتهك حقوق الإنسان؟ ها قد بات الإنسان بلا مأوى يأويه وبلا لقمة تشبعه أو هدمة تستره، وتفشّت الأمراض النّقسيّة والجسديّة ، أفلا ترحمون شيخًا كبيرًا أو طفلا صغيرًا؟ أوقفوا هذه الحرب الرّعناء وفكّروا بغضب السّماء، فإن لم تنصرنا عدالتكم الأرضيّة فحتما ستنصرنا العدالة الإلهيّة . وكم كان جبران صادقًا حين قال: نحن أمّة تحتضر ولا تموت، نحن الأقوياء بضعفنا، المنتصرون بانكسارنا، نحن الّذين نأكل قلوبنا طعامًا ونشرب دموعنا خمرًا ، غير أنّنا لا نلوي أعناقنا ولا نحوّل وجوهنا عن الكواكب.نحن طائر الفينيق الّذي ينفض جناحيه من تحت الرّماد ويحلّق من جديد مغرّدًا للحياة.