
دراسة ذرائعية في رواية صلاة القلق للكاتب المصري محمد سمير ندا
تأتي رواية صلاة القلق لتعيد تشكيل صورة المجتمع العربي المأزوم، عبر سرد مشبع بالرموز والأساطير والكوابيس. يتخذ الكاتب من القلق—بوصفه حالة نفسية ووجودية—بؤرة فكرية لتفكيك علاقة الفرد والجماعة بالسلطة، ولإدانة التضليل الإعلامي وإعادة كتابة التاريخ. الرواية تنبني على تعدد الأصوات وتشظي الزمن، والمزج بين الواقعي والفنتازي، لتغدو صرخة وجودية–سياسية ضد النسيان والتزييف.
- البؤرة الفكرية والخلفية الأخلاقية
البؤرة الفكرية: القلق كقدر جماعي، يتفشى كالوباء ويعيد تشكيل الهوية.
الخلفية الأخلاقية: مفارقة بين سلطة دينية–أسطورية (الشيخ أيوب وكرامات أبيه) وسلطة سياسية–إعلامية (الخوجة وصحيفته).
→ النص إذن يفكك تواطؤ الدين والسياسة في صناعة الخوف.
- المستوى البصري
1. العتبة الدلالية (العنوان)
العنوان صلاة القلق عتبة نصية وبصرية ذات حمولة رمزية:
دلالة عنوان الرواية: صلاة القلق
العنوان مفتاح دلالي بالغ العمق:
الصلاة: في المخيال الديني والروحي هي فعل طمأنينة وتضرع وطلب نجاة.
القلق: في المقابل هو اضطراب داخلي، حالة وجودية مرتبكة لا تعرف اليقين ولا السكينة.
الجمع بين الكلمتين يكشف عن مفارقة جوهرية:
الصلاة التي يفترض أن تجلب الطمأنينة أصبحت صلاة من نوع آخر، صلاة للقلق نفسه، كأن الناس يعبدون اضطرابهم.
العنوان يوحي بأن القلق تحوّل إلى طقس جماعي، يمارس كعبادة يومية، بلا فكاك.
الصياغة الإضافية (صلاة + القلق) تعني أن القلق صار معبودًا خفيًا، وأن النص بكامله هو طقس كتابي/سردي لاستدعائه.
بهذا يصبح العنوان عتبة نصية قوية تختزل جوهر الرواية:
1. أن القلق لم يعد حالة طارئة بل دينًا بديلًا.
2. أن الجماعة، مثلها مثل الفرد، تؤدي “صلاتها” أمام مذبح الخوف.
3. أن النص نفسه، في بنيته المكرورة الملتبسة، أشبه بتراتيل طويلة في قداسٍ وجودي لا ينتهي.
الصلاة: فعل طمأنينة وخلاص Xالقلق: اضطراب وهشاشة وجودية.
الجمع بينهما يكشف مفارقة: الصلاة التي تُطمئن تتحول إلى صلاة للقلق ذاته، وكأن القلق صار طقسًا جماعيًا وديانة بديلة.
بهذا يلخّص العنوان جوهر الرواية: المجتمع كله يؤدي قداسًا طويلًا أمام مذبح الخوف.
2. المشهدية البصرية في النص
سقوط النيزك/الشهاب كرمز للكارثة.
رؤوس السلاحف بدل الرؤوس البشرية.
التمثال المشطور الذي يتجول ليلًا.
الجلباب الملطخ بالدم والمقبرة والعبارات السوداء على الجدران.
→ كلها صور كابوسية تعكس اغتراب الواقع وتشوه الوعي. هذه الصور الكابوسية تجعل النص الروائي قائمًا على الواقعية الرمزية/ الأسطورية، حيث يصبح المشهد المادي تجسيدًا لحقيقة داخلية.
- المستوى اللغوي
لغة الرواية تجمع بين:
الفصحى الشعرية (إيقاع، تكرار، استعارات)
والسرد الشعبي (الأغاني، الأمثال، وحكايات الجدات).
هذا المزج يجعل النص جسرًا معلقًا بين الأسطورة والواقع، وبين الذاكرة الجمعية والفردية.
- المستوى الديناميكي
الحركة السردية تتصاعد من حدث خارجي (سقوط النيزك) إلى تفاعل داخلي (تفشي القلق/ الوباء)، ثم إلى انهيار جماعي.
الإيقاع الحدثي دائري/متكرروفق إيقاع طبيعة القلق الدائمة يعكس استمرارية الأزمة.
المشاهد مبنية على التوتر الدائم بين الداخل النفسي والخارج الاجتماعي.
- المستوى الحجاجي/التداولي
حوارات الأهالي مع الشيخ والخوجة تكشف صراع الخطابات، الصراع بين الخطاب الديني الموارب والخطاب الإعلامي الدعائي.
التساؤلات المستمرة (“متى تنتهي الحرب؟”) تكشف وعيًا مأزومًا للشخصيات.
الأغاني والأمثال الشعبية أدوات تدخل في السرد كجزء من التداول اليومي لإعادة إنتاج الوهم.
- المستوى الرمزي الإيحائي:
- رمزية الشخوص
الشيخ أيوب: الوعي الممزق/الصبر العاجز.
الخوجة: السلطة الزائفة/الدعاية.
الشيخ جعفر: الماضي الميت/الكرامة الزائفة.
نوح النحّال: الأب المكلوم/ذاكرة الهزيمة.
محجوب النجار: التساؤل/إعادة بناء الحقيقة.
شواهي: الأنثى الملعونة/الحرية المكبوتة.
وداد (القابلة): الأم الكبرى/استمرار الحياة.
حكيم (الأخرس): الجيل المشوَّه/الخرس أمام السلطة.
القط الأسود: تجسيد القلق الباطني.
- رمزية الأمكنة والأدوات:
التمثال المشطور: شبح الزعيم/ذاكرة سياسية مشطورة.
المقبرة: حضور الموت/الذاكرة الأسطورية.
الراديو: صوت السلطة/التنويم الجماعي.
قرص الراديو: الزمن الدائري/الأمل الوهمي.
المراكب: وهم الخلاص/العبور المؤجل.
الترعة: مرآة التحولات (من اللعب الطفولي إلى الموت).
الخمّارة: مسرح للهروب/القلق الوجودي.
- البعد السياسي وصناعة الوهم
الرواية تفضح بعمق آليات التضليل السياسي والإعلامي:
- نكسة 1967 كنصر: إعادة كتابة الهزيمة كملحمة إعلامية.
ونصر 1973 كهزيمة: انتصار عسكري لا يترجم إلى خلاص وجودي. التاريخ يُعاد إنتاجه بما يخدم السلطة، لا بما يعكس الحقيقة.
2. صحيفة صفحة واحدة: إلغاء التعددية، خطاب أحادي يُطبع ويوزع عبر الأخرس، في مفارقة ترمز إلى سلطة الصوت المسلوب.
3. الراديو: أداة دعائية تُكرس الوهم. يقوم بمهمة التنويم الجماعي، يغني للنصر وهو يغطي الهزيمة.
4. نجع المناسي: : الاسم ذاته إعلان عن مجتمع منسي من الدولة والتاريخ.
اسم المكان استعارة عن أمة منسية، هويتها قائمة على النسيان، قدرها أن تعيش في الهامش.
- المستوى النفسي (العميق)
هنا يكمن ثقل الرواية:
القلق الفردي: الشيخ أيوب رمز الوعي الممزق بين الإيمان والشك.
القلق الجمعي: تفشي المرض (سقوط الشعر، الصلع، الخمول) كتجسيد لفقدان الهوية الجماعية.
اللاوعي الجمعي: حضور الأساطير والكرامات واللعنات كمرجعيات.
الكابوس والبارانويا: القط الأسود، تحرك التمثال، اختفاء القابلة، كلها تجسيد لهواجس جماعية.
- مدخل التناص:
إلى جانب ما قدمته الرواية من تصوير فردي وجماعي للقلق كحالة مرضية وجودية، فإنها توسعت في بناء نفسي قائم على التناص مع نصوص رمزية عربية، أبرزها التناص مع قصة “العاصفة” لنجيب محفوظ.
العاصفة عند محفوظ: لم تكن مجرد ظاهرة طبيعية بل رمز لانكشاف المجتمع أمام قوى مفاجئة (كونية أو سياسية). تجلّت في الفزع، الإشاعة، العجز، والانتهازية.
العاصفة في الرواية: تستعيد هذا الجو الرمزي–الواقعي، إذ تتحول الأحداث الكبرى (نكسة حزيران، التضليل الإعلامي، ضباب الشعارات) إلى عواصف سياسية–اجتماعية تهز البنية الاجتماعية.
أوجه التشابه الرمزية:
الشّيخة بهيّة (محفوظ): الوعي بالخطر قبل وقوعه → تتناص مع الشخصيات “المنذرة” في الرواية التي تستشعر الخراب القادم.
شيخ الحارة (محفوظ): القيادة المرتبكة التي تبرر الانتظار → يقابله في الرواية صورة القيادة/الشيخ أيوب والخوجة، العاجزين عن الفعل والمعلّقين على وعود مؤجلة.
اللصوص (محفوظ): الذين اغتنموا الريح → يقابلهم في الرواية أولئك الذين اغتنموا هزيمة حزيران لتثبيت سلطتهم بخطاب دعائي مزيف.
العاصفة نفسها: تتناص مع نكسة 1967 كحدث جلل أُعيد تفسيره بخطاب مضلّل، بينما الحقيقة كانت انهيارًا شاملًا.
دلالة التناص
بهذا التناص تستعير صلاة القلق التراث الرمزي المحفوظي وتعيد إنتاجه في سياقها الخاص:
العاصفة تتحول إلى رمز متجدد لكل انهيار يتبعه تضليل.
يصبح القلق الذي يعيشه أهل نجع المناسي امتدادًا لحالة الارتباك والفزع في حارة محفوظ.
يعكس التناص أن القلق الجمعي في النص ليس معزولًا، بل هو جزء من ذاكرة عربية متكررة من الهزيمة والخذلان.
- المدخل التقمصي:
فصول النهاية: التقمص وتوحيد الأصوات
في الفصول الأخيرة من صلاة القلق يتخلّى الكاتب عن تمييز الأصوات الفردية للشخصيات، فنجد أن الجميع يتكلم بنبرة واحدة: الشيخ أيوب، نوح النحّال، مجوب النجار، وحتى الخوجة. هذا الاندماج يشي باستخدام تقنية التقمص السردي، حيث يذوب الصوت الفردي داخل صوت جماعي أوسع، فيتحول النص إلى ما يشبه مونولوجًا جماعيًا يعكس أزمة أمة بكاملها.
توحيد اللغة: لم تعد الشخصيات تُعرّف بخطابها الخاص، بل تتقاسم خطابًا مشتركًا يعبّر عن القلق والخوف.
التقمص السردي/ النفسي والجماعي: القارئ يجد نفسه متورطًا في التجربة، كأنه يعيش هواجس الشخصيات مجتمعة.
التشوش بين الواقع والمتخيل: الأحلام، الكوابيس، القط الأسود، العبارات السوداء على الجدران… كلها تختلط بالوقائع “المادية” مثل سقوط النيزك أو اختفاء وداد، فيغدو الواقع نفسه مشوشًا كالحلم، وكأن الخيال تسلل إليه واستوطنه.
حنكة السرد: الكاتب لم يمنح أي يقين، بل أبقى النهاية مفتوحة على الالتباس، ليؤكد أن القلق ليس له مخرج نهائي، وإنما هو قدر مفتوح، بلا يقين، لتظل الصلاة ممتدة بلا استجابة.
→ بهذا تنجح فصول النهاية في تكثيف رسالة الرواية: الجماعة كلها تتكلم بصوت واحد، صوت القلق.
- التجربة الإبداعية
يقدّم سمير ندا تجربة سردية روائية تقوم على:
التعدد الصوتي (البوليفونية).
تشظي الزمن بين الماضي/الحاضر/المستقبل.
المزج بين الواقعي والفنتازي.
استدعاء التراث الشعبي والأسطورة.
تجربة سردية نابعة من وعي مأزوم بالتاريخ والسياسة، توظّف الأدب أداةً لمساءلة السلطة وتفكيك خطابها.
- بالختام:
صلاة القلق نص وجودي–سياسي بامتياز، نص مركب ينحت القلق كدين جديد، يعرضه ليس كحالة نفسية بل كقدر جماعي، ويكشف عن تلاعب السلطة بالتاريخ والإعلام لتكريس الخوف والخذلان. عبر شبكة رمزية كثيفة للشخوص والأمكنة والأدوات، وعبر لغة مشحونة بالأسطورة والكابوس، تُظهر الرواية كيف يتحول مجتمع كامل إلى “نجع مناسي”، يعيش بين الموت والنسيان، تحت سلطة الوهم والتضليل.
إنها ليست “صلاة” طقسية، بل صلاة احتجاج ضد ذاكرة مشطورة، وضد أوبئة الخوف والدعاية، وضد تاريخ يكتب دائمًا على مقاس السلطة.
الاسكندرية – مصر 31/ 8/ 2025