كثيرا ما يتداول الناس مفهوم المعرفة على انه ثقافة ، وحقيقةً أنَّه ليس من السهل الفصل بدقة بين مفاهيم « المعرفة والتعلّم والثقافة» ، فقد جرى تداولها طويلًا بوصفها مترادفات ، أو درجات متقاربة في سياق واحد ، غير أن الدارس لهذه المفاهيم يكتشف أنها ليست تعبيراً عن مراحل متتابعة ، إنما تحولات نوعية في علاقة الإنسان بالعالم من حوله وبذاته وبمجتمعه. « المعرفة » تكون هي البداية ؛ وهي أبسط الأشكال وأكثرها شيوعًا ، أن يعرف الإنسان يعني أن يمتلك معلومات عن موضوع ما ، أن يكون على تماس مع البيانات ، الوقائع والأخبار ، أو الأفكار المتداولة ، « المعرفة » بهذا المعنى فعل تلقي وتخزين ، وهي أقرب إلى المادة الخام قبل دخولها أي عملية تصنيع ، لذلك نرى في مجتمعاتنا وفرة من « العارفين » ، اولئك الذين يمتلكون كمًّا هائلًا من المعلومات ، لكن دون أثر حقيقي في الفهم أو السلوك أو الرؤية ، فالمعلومة ، مهما تراكمت او كثرت تبقى ساكنة إن لم تتدارسها أدوات العقل . هنا يتقدم « التعلّم » بوصفه المرحلة التالية في مشروع صنع الوعي ، والأكثر حساسية ، « التعلّم » ليس حفظاً ولا تلقيناً ، « التعلّم » ممارسة عقلية ومنهجية تتعامل مع المعرفة بالنقد والتمحيص ، في « التعلّم » تُدرس المعرفة ، وتُمحّص مصادرها ، وتُختبر أساسياتها ، ويُستنبط معناها ، ويُفصل هنا بين الغث والسمين ، وبين دلالات الظن واليقين ، بـ « التعلّم » تتحول « المعرفة » من تكديس بيانات إلى فهم ، ومن كمية إلى كيفية ، ومن أخبار عابرة إلى أداة تحليل وتمحيص ، وعند هذه المرحلة ، لا يعود الإنسان مجرد « عارف » او لديه دراية ، بل يصبح « متعلّمًا » يمتلك قدرة على السؤال والربط والاستنتاج . إن « التعلّم » ، على أهميته ، لا يصنع بالضرورة أثرًا اجتماعياً ، فالفهم قد يبقى متخندقاً بالعقل كما بقيت « المعرفة » حبيسة الذاكرة ، وهنا تظهر « الثقافة » باعتبارها المرحلة الأعمق والأكثر نضجاً ، « الثقافة » ليست مخزوناً معرفياً ، ولا شهادات تعليمية ، « الثقافة » هي حالة وعي متحركة ، إنها توظيف « المعرفة » التي خضعت لـ « لتعلّم » في بناء رؤية في جال ما ، وفي إنتاج مشهد فكري وأخلاقي ، وفي صياغة خطاب قادر على التفاعل مع المجتمع والتأثير فيه ، الإنسان المثقف لا يكتفي بأن يفهم ، بل يشعر بمسؤولية ما يفهمه ، إنه يربط الأمور بعضها ببعض ، يربط الخاص بالعام ، والفكرة بسياقها ، والمعرفة بفلسفتها الاجتماعية والإنسانية . بهذه الرؤية تتبلور الطبقات بوضوح : فـ « العارف » قد يكون سلبياً ، لأن معرفته غير مُفعّلة ولا تترك أثراً ، و « المتعلّم » أكثر قرباً من الوعي ، لأنه يمارس التحليل والنقد ، أما « المثقف » ؛ فهو الحلقة الأكثر قرباً إلى الوعي ، لأنه يحوّل الفهم إلى رؤية ووعي ، والوعي إلى أثر فاعل في مجتمعه . ويمكن توضيح هذا المسار بمثال شائع في واقعنا ؛ حيث كثيراً ما نتداول معطيات أو ادعاءات عن « نظرية المؤامرة » في الواقع السياسي أو الدولي ، في هذه الحالة نكون أمام معرفة مجردة ، وبيانات متداولة بغضّ النظر عن صحتها ، فإذا ما تعاملنا مع هذه المعطيات بطريقة علمية ، تحققنا من مصادرها ، قارناها بالوقائع ، حللنا المسارات السياسية والاقتصادية التي أنتجتها ، نكون قد مارسنا « التعلّم » ، وحوّلنا « المعرفة » إلى أداة تحليل ، ووضع منهجيات نظرية للتعامل مع « المؤامرة » ، لكن حين نستخدم نتائج هذا التحليل في تفكيك الخطاب المتشعب ، ومواجهة الخرافات ، وبناء وعي يحمي المجتمع من التضليل ، ووضعنا المنهجيات الموصى بها موضع التنفيذ ، فإننا نكون قد انتقلنا إلى مجال الثقافة وصناعة الوعي . من هذه الرؤية ، يمكن القول إن « المعرفة » دون تعلّم تظل سطحية ، وإن « التعلّم » دون ثقافة يظل بلا أثر ، أما « الثقافة » ؛ فهي المخرج الأهم لهذه العملية كلها ، لأنها المرحلة التي يلتقي فيها العقل بالشعور بالمسؤولية ، ولقاء الفكرة بالمجتمع ، والمعرفة بالإنسان . ونلخص ماسبق بانه لا تُقاس قيمة الإنسان بما يعرفه فقط ، ولا حتى بما تعلّمه فقط إن لم يكن ما يصنعه من هذا كله في وعيه ووعي محيطه ، فالمعرفة إن بقيت حبيسة الذاكرة تحولت إلى عبء ، والتعلّم إن توقف عند حدود الفهم صار ترفًا ذهنيًا ، أما الثقافة فهي وحدها القادرة على منح المعنى لما نعرف ونتعلّم ، إنها المسافة الفاصلة بين عقل يستهلك الأفكار وعقل يُنتج وعيًا . ولعل أزمة مجتمعاتنا اليوم ليست فقرًا في المعرفة ، ولا عجزًا عن التعلّم ، بقدر ما هي نقص في تحويلهما إلى ثقافة فاعلة ، فحين ذاك لا تُصاغ المعرفة في خطاب مسؤول ، ولا يُستثمر التعلّم في خدمة الواقع ، تتكدس المعلومات وتضيع البوصلة ، لذلك تبقى الحاجة ملحّة إلى مثقف يدرك أن دوره لا ينتهي عند الفهم ، بل يبدأ منه ، مثقف يرى في المعرفة مسؤولية ، وفي التعلّم أداة ، وفي الثقافة فعلًا أخلاقيًا واجتماعيًا لا غنى عنه لبناء وعي قادر على مقاومة التضليل ، وإعادة الاعتبار للعقل بوصفه أساس النهضة والكرامة الإنسانية . وهيهات ..

( عماد عواودة ، أبو حازم
الأحد ٢١ ديسمبر ٢٠٢٥ ، قميم / الأردن )