منذر بدر حلوم
تصنع سوسن جميل حسن في روايتها “وارثة المفاتيح” بوّابةً روائيةً، تشبه (طاقة) المزار التي كَتبتْ عنها في “اسمي زيزفون”، بوّابةً- طاقةً، إن خرجتَ منها بَرّأوك، وإن علقت فيها أدانوك. لكن الرواية لا تدين العالقين ولا تسمح، وجدانيًا، لقارئها بأن يدينهم، وهذا مهم. كأنما هي تقول: “من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر”.
أتقنت نبّاشة النفوس رسم شخصية بطلتها رضيّة، وعرفت كيف توجه مشاعر القارئ فلا يدينها، وإن دانها دان الواقع قبلها ودان نفسه، وكذلك رسم شخصية عفيف زوج رضية الشرطي الذي كأنما عاش ليسجّل محاضر الناجين من الطاقة والعالقين فيها، ولم يكن يحق له، بحكم وظيفته، أن يُعبّر عن تعاطفٍ، حتى حين أمسكت الطاقة بضناه وانتهت به إلى الموت، بل ويشيح بنظره حتى عن رضية، التي عاش معها أيامًا هنيّة قبل أن ينقلب الواقعُ، يشيح عنها عالقة من جانبين.
تعرض “وارثة المفاتيح” كيف تستمتع رضية برضاها عن نفسها في أثناء العبور، ثم تجد نفسها ونجدها وقد خرجت، إنّما إلى هاوية. لا أرضَ تقف عليها، لا أحد ينتظرها في الجانب الآخر. (الباشا) يتخلى عنها، ابنها يموت، ابنتها تهجر البيت، بل البلاد، حفيدها يسرق مصاغها ويهرب، وعفيف يطلق على رأسه رصاصة.
الواقع الذي صوّرته “وارثة المفاتيح” يدفع رضيّة إلى الجنون، ويدفع القارئ إلى التفكير: هل كان لدى رضيّة خيارات ودروب غير التي سلكتها؟ وهنا بالذات تكون الرواية قد أمسكت بقارئها. الشخصيات من لحم ودم، والواقع واقعنا. قد يكون في كل عائلة رضيةٌ صامتةٌ وعفيفٌ متنكرٌ بشاربي رجل من رجال “باب الحارة”.
تضعنا سوسن حسن في روايتها “وارثة المفاتيح” أمام نيغاتيفات: فبطلتها رضيّة (ما بعد الباشا) نيغاتيف نفسها (ما قبل الباشا)؛ وزوجها عفيف، نيغاتيف لها ولمقولة “القناعة كنز لا يفنى” التي نشأ عليها جيل الآباء الراضين. يبدو عفيف، في الرواية، كأنما خُلق ليكون نيغاتيفًا، لم يحلم يومًا بشيء ولم يطمح إلى شيء؛ والشخصيات كلها، تُشكّل مجتمعة نيغاتيفًا يُظهّر موقفَ القارئ. هنا مصيدة الرواية، في أن تجعل ضميرك يسألك “أين أنت؟”، ولكن ماذا عساك تقول لنفسك، قبل أن تقول للآخرين؟
إلى جانب رضيّة الطامحة وعفيف القانع، رسمت سوسن حسن شخصية (الباشا) وابنه (أمجد) ومن خلالهما روح السلطة الفاجرة، التي تلوك كرامات البشر وأجسادهم. حضور السلطة في الرواية مطابق لحضور الواقع، نعيشه ونعيش فيه، فلا نعرف أين يبدأ وينتهي، وأين نحن منه. الباشا وابنه، يعيشان، سواءً برضيّة أم غيرها، ولكنهما لا يمكن أن يعيشا من دون أمثالها وأمثال ابنها وحفيدها، بل وعفيفها، فهل كان لها أن تعيش من دونهما؟ هما أشبه ببوابة- مصيدة، لا مناص لكل طامح إلى تغيير واقعه من المرور عبرها. وفي هذه البوابة- الطاقة يحصل التغيير. تتعرف رضية على رافعة قوتها الوحيدة- جسدها، وعامل ضعفها الرئيس- طموحها. ويُسجّل زوجها الشرطي وقائع موتها في نفسه، ولا يدري أنها ماتت أمام نفسها أيضًا، ثم يطوي الدفتر- المحضر ويطلق الرصاصة الوحيدة في حياته المهنية، ولكن على رأسه. الرصاصة لا تقتل الواقع، ولا تفتح بوابةً لواقع آخر، إنما تفتح بوابة السؤال: هل حقًا لا معنى لحياة الراضين القانعين؟ ولا سبيل أمام الطامحين الراغبين في تغيير واقعهم إلّا فقدان الشخصية؟
كأنما تكمل “وارثة المفاتيح” سابقتها باثني عشر عاما “النباشون”، فكأنما هناك رواية أمٌّ، أحد فصولها “النباشون”، وآخر “اسمي زيزفون” وثالث “وارثة المفاتيح”، وفيها جميعًا يستمر النبش، وتمرير البشر عبر الطاقة. في اللاذقية الكبرى، تدور أحداث الروايات الثلاث.
لا بريء يخرج من طاقات “النباشون”
في “النباشون”، تنسج سوسن حسن، على غرار أهل مدينتها الذين كانوا ينسجون شباكهم من خيوط حرير متين، لتعلق بها حيوات تعيش بين ثقل الرصاص وخفة الفلين.
تعبر شبكةَ “النباشون” تيارات تغتسل بها الشبكة ولا تنجرف معها، فخلاياها تتسع تارة وتضيق أخرى، لتمسك بصيد، يُرغم ثقلُه الوزّان على تحريك بيضة القبان حين يضعه عليه.
معلوم أن بيضة قبان الرواية نسيجُها، بنيتُها الفنية، وليس موضوعها، أيا تكن فرادة الموضوع وحيويته. وبما أن الرواية نسيج حي، وجب تذكير العارفين بأن لا سياسة في العضوية الحية، إلا سياسة النبض، إنما طيف البيولوجيا واسعٌ يجعل الحياة ممكنةً، بين رصاص الواقع وفلين الحلم، واقع جمعة وحلمه، واقع حبيبته جميلة وحلمها المكتوم الأنفاس.
“النباشون” نسيجٌ حِيك من خيوطٍ مجدولةٍ بإحكام، على وقع خطواتِ جمعة وحماره واستراحاتهما، في طريقهما اليومي بين حاوية قمامة وأخرى، حيث لا لُقيا ذات شأن سوى واحدة تزرع الأمل في أرضٍ على قمامتها لا ينبت زهر. لحياكة نسيج “النباشون” جدلت سوسن حسن هذا الطريق وما فيه بخيط مونولوجات جمعة الداخلية وتأملات حماره والحوارات، بل التحولات، بينهما؛ وبخيط ثالث من تحليلات نفسية واجتماعية أغنت النسيج دون أن تثقل عليه، وبخيوط أرفع، لا تقل متانة، خرجت من أحياء المهمشين الذين لا هوية لهم سوى هوية المكان، ولا تاريخ قبله أو بعده، وعادت إليها؛ وزركشت المؤلفة هذه الخيوط بوصف ذكّرني بإرث الرواية الروسية في عصرها الذهبي.
“النباشون” نسيج، ربما صحّ تشبيهه بنسيج بيولوجي حي، وتشبيه الرواية بكيان حيّ. أليست الرواية الحيّة كيانًا حيًّا بالضرورة، وليست ميكانيزمًا أو بنية هندسية أو روبوتًا مُبرمَجًا؟
جمعة، بطل الرواية، وحماره، يشكلان معًا خيميرا حيّة في نسيج حي، خيميرا تسير في شوارع اللاذقية كلَّ يومٍ، يَعْرِجان من خلاف، وتعلو وتهبط معهما رؤيتهما للعالم وأحلامهما. ترسم “النباشون، خيميرا “جمعة- أبوطافش”، ومنها تمسد حبلًا روائيًا متينًا. أبو طافش اسم الحمار الذي جعلَ صاحبُه جمعةُ في جيده حبلًا من مسد، أحدهما ينبش الزبالة ويحلم بمدينة نظيفة وبناء بيت نظيف، مما لا يدرك البشر قيمته، لحبيبته جميلة، والآخر يحلم بالانعتاق من قيد “حيونة” الإنسان.
“في “النباشون”، تنسج سوسن حسن، على غرار أهل مدينتها الذين كانوا ينسجون شباكهم من خيوط حرير متين، لتعلق بها حيوات تعيش بين ثقل الرصاص وخفة الفلين”
شبكة “النباشون” التي نسجتها مؤلفتها، بمهارة ودراية سيكولوجية وبيولوجية وتقنية- فنية، لا تمرر، الأطفال، قبل أن تصطاد اثنين منهم وتترك الباقين لليشمانيا، فتُسكن في نفس القارئ وجعًا فوق وجعه المقيم. أظن كثيرين لو كان بإمكانهم دخول الرواية وتخليص الأطفال الموجوعين من شباكها لفعلوا. وقد بتنا في زمن لم يعد متعذرًا فيه، تقنيًا، صناعة رواية تفاعلية يدخلها القارئ فيُنقذ من ينقذ فيها، ويقتل من يقتل. القارئ، يفعل ذلك على أية حال. وحين يفعل، تكون الرواية قد نجحت. لكن عن شروط النجاح في الوسط الثقافي، ربما يجدر سؤال بغل حمود العتال!
أثمن ما نبشه جمعة
ويكبر الناجون من “طاقة” الواقع، كما يكبر جمعة، وينبشون. كل منهم ينبش قَدَرًا. وبحسبي، كان أثمن ما أهداه جمعة، لـصاحبة “النباشون” بعدما أنجبته ولم تغفل عينها عنه حتى كبر، أنه نبش طويّة دلال التي أزاحت أحلامه بحبيبته جميلة وطوتها. نبش جمعة طوية دلال بأداة قاهرة موجعة صنعتها المؤلفة الطبيبة من معرفتها بما يفعله المرض الخبيث بالمبتلين به. لم ينبش جمعة أحلام دلال المدفونة فحسب، إنما وجسدها المدفون، من ركام قواعد حياتها الزائفة. أخرجه من الأطر العائلية والمجتمعية- الطبقية. نبش، بمساعدة المرض، كل قواعد الحياة التي كانت قد انحلت في دم دلال. بكل قسوة ووضوح، نادهًا المرض، مستعينًا بنداء جسدها: أنا سفير الموت وهذه مفردات حياتك، تأمليها، ما زال فيها ما يمكن إعادة تدويره. وكان الشيء الوحيد الذي يربط جمعة بثقافة العيش خارج القمامة هو كتاب عن تدوير النفايات، فاستسلمت دلال للنبّاش. هنا النبش الإبداعي، خلق أملًا. فالرواية تنتهي، لا دلال تموت فيها ولا جمعة الذي تخلى عن مشروع صناعة بيت لجميلة من نفايات مدوّرة، بعد أن صنع بيتًا أجملَ وأبقى لدلال، من دون أن يدري.
ومع أن كل شخصية في الرواية ابنة المؤلف، أشعر بأن دلال ابنة الرواية، فكأنها ولدت من رسائل أهداها جمعة للكاتبة. أنجبت سوسن حسن جمعة فشال عنها حين كبر مصير دلال التي تبنتها وأقلقها مرضها. هنا الفارق بين حياة تخلق نفسها وتعبر عن نفسها، وحياة صنعية، فارق بين رواية مسبقة الصنع ورواية مبنية من آجر مشوي جيدًا، كل أجرة فيها تقول “ضعني هنا”.
في كل خلية من خلايا شبكة “النباشون” “طاقة”، ولكن بلا مزار، إلا إذا كانت الرواية نفسها مزارًا، فإذا بالعالق أمام خيارين إما يرتد إلى حيوانيته، هربًا من وحشية الإنسان ويفر إلى البراري، أو يوغل في الاستسلام، أو؟ هذه الثالثة متروكة للضمير والإرادة. فقد أضاءت سوسن حسن أمام ضمائرنا طاقة في ثلاث روايات، تبرئنا أو تديننا حيث لا تنفع الصلوات، ولا مال أو بنون.
المصدر ضفة ثالثة