سبع سنوات قضيتها في المدينة، عايشت كل شوارعها، الشوارع الطويلة الصالحة للمشي والقصيرة العابرة بين شارعين ، دبت أقدامي على كل مساحاتها المتاحة للمشي ، ومازلت أكتشفها تلك الطرق التي تجتاز زمنها بصمت مزيف ، يعتقده هؤلاء الذين لا ينصتون لحوار الطرق ، وأنين الموجوع منها .
منذ شهر اكتشفته ذلك الطريق الرابط بين شارعين رئيسيين ، متسع بصرة مبالغ فيها ، ومن يومها لزمته ، ربطني إليه بسحر خفي ، مع الأيام توالت الاكتشافات ، لا تسير فيه السيارات!، ليست فيه أبواب للبيوت ، فقط بيت واحد يقع في منتصفه تماما كأنه قلب وحيد للطريق ، أشجاره خضراء ذات روائح عطرية غريبة ( لا تسألني عن غرابتها فقط هي روائح ساحرة لا تفسر ، ولا مجال لاكتشاف طبيعتها)، الأضواء فيه خافتة ، حالمة بصورة مثيرة (تشترك مع الروائح والظلال في تشكيل لوحة أسطورية).
بحركة لا إرادية أسير إلى الشجرة الوحيدة وأتوقف عندها دقائق قبل مواصلة السير ، وبصورة لا تفسير لها هجرت بقية شوارع المدينة ، ملأني إحساس بأن الطريق ملكية خاصة لي ، بالفعل مما اكتشفته ألا أحد يسير فيه غيري ( حتى بعد أن غيرت أوقات السير لم أجد أحدا ) .
مجموعة الاكتشافات سببت لي خوفا بدأ يتزايد حين بدأت أستمع أصوات موسيقى ، وتراتيل صادرة من الباب الوحيد، لكنه شعور بدأ يتراجع رويدا ، وبدأت الروائح تبث طمأنينة نادرة وسحرا مضاعفا.
أصبح الطريق سلوى غربتي ، و أثارتني الاكتشافات لإدراك مرجعياتها ، على مدار الشهر ، رحت أبحث عن فك شفرات الغموض .
بدأت بصاحب محل البقالة الوحيد في الشارع الموازي ، كان هنديا شابا فلم يتقبل أيا من تساؤلاتي .
في الصيدلية القريبة بادلني الشاب غموضا بغموض ، تذكرت المكتبة القديمة التي أرتادها بصورة دورية ، ابتسم لي المواطن الستيني وهو يطلق كلمات الترحيب ، بادرته بالسؤال ، فلم يندهش غير أنه انطلق يحكي بهدوء حكاية الطريق الذي كان في الأصل جبلا جاورته قبيلة صغيرة ، جمع الحب بين شابين من أبنائها ، ولما ذاع أمرهما دخلا كهفا في الجبل ، ولم يظهرا ، وبعد أيام اختفى الجبل نفسه فجأة فأصاب كل أفراد القبيلة مس من الجنون وهاموا في الأرض وظل المكان محتفظا بغموضه حتى اليوم ، صمت قليلا ثم أكمل ، إن أردت المزيد فعليك بمقيم الشعائر في المسجد القريب.
بعد صلاة المغرب التقيته ، قابلني بهدوء مقتضب ، راح يدور حول الموضوع حتى بدا أنه لا يرغب في الحديث لكنه تمتم بقوله دع الملك للمالك ، ولا يمكن نبش الماضي ، هذا زمن انتهى ولن يعود بكل مافيه من تفاصيل ومشاعر ، توقفت عند المفردة الأخيرة ، تركته وأنا ممتلئ بإصرار ممزوج بقوة كبرى من حب الاستطلاع .
في اليوم التالي انتهزت فرصة صلاة العصر ورحت أتفحص الوجوه حتى وجدته ذلك الرجل الثمانيني أو يزيد ، لم أتذكر أني رأيته من قبل ، لكن قلت لأجرب ، كان ودودا وهو يستقبلني متقبلا أسئلتي بترحاب واضح كأنه كان ينتظرني ، ارتكن بي في ركن قصي وراح يحكي بتدفق واضح مؤمنا على الحكاية ومفسرا عدم دخول السيارات في الشارع فكل سيارة دخلت لم تخرج سالمة ، ياولدي الحب لا يقبل الضجيج ، والطريق لا يقبل شريكا للقلوب المقيمة ، الجبل يظهر في أوقات متواترة ، والعاشقان يتناجيان تحت أستار من النجوم التي تهبط ليلا لتلفهما ، القمر نفسه قد يشارك في ليالي تمامه ، مادام الطريق يتقبل وجودك فسيكشف لك يوما عن أسراره ، والعشاق سيظهرون لك لأنك تملك صفاتهم ، سيتجلى لك العشق لأن قلبك عامر به ، بدا كالنائم ، تركته ، انسحبت بهدوء .
الأيام التالية بدا الطريق مشعا ، والأشجار تتبادل أماكنها بمودة ، الثمانيني لم يظهر بعد مطلقا وأنا مازلت أبحث ….