الدكتور سعيد عيسى
تبدأ “يا ليلي” بصوت طفلٍ يكرّر:
يا ليلي ويا ليلا… وش باش نَشـكّـيلَك؟ قالولي لالا… صغير وما يِحْكيلَك.
منذ اللحظة الأولى، لا تبدو الأغنية مجرّد عملٍ ترفيهي. صوت الطّفل، وحدّة الشّكوى، والإيقاع السّريع؛ كلّها تفتح باباً على عالمٍ كامل، طفولةٌ محاصَرةٌ بالخوف، ومدينةٌ خانقة، وبيتٌ لا يوفّر دائماً الأمان، ووطنٌ يتحوّل في عيون الصّغار إلى مكانٍ يجب الهرب منه لا البقاء فيه.
“يا ليلي” هنا ليست فقط أغنيةً ناجحةً حقّقت ملايين المشاهدات، بل نصّاً سرديّاً يكشف شكل الحياة في الأحياء الشّعبية المغاربيّة، ويختزل في دقائق قليلةٍ حكايات جيلٍ كامل. خلف اللّحن واللّازمة المألوفة، تختبئ سيرةٌ يوميّةٌ لطبقةٍ مهمَّشة، ولأطفالٍ حملوا مبكّراً ما لا ينبغي أنْ تحمله طفولة.
صوت طفلٍ في عالم الكبار
الطّفل في “يا ليلي” ليس صورةً بريئةً معلّقةً على جدار البيت، ولا كائناً مدلّلاً كما في الأغاني التّقليديّة؛ بل هو راوٍ حقيقيٍّ لعالمٍ قاسٍ. الكلمات الأولى تكشف قاعدة التّعامل معه: “صغير وما يِحْكيلَك”. عبارةٌ قصيرة، لكنها تختصر منطقاً واسعا، الصغير لا يُسْتَمَعُ إليه، لا يُسْمَحُ له بتسمية ما يراه، ولا يُعْطى حقّ تفسير ما يحدث حوله.
ومع ذلك، يفعل العكس تماما، يتكلّم، يشتكي، يرفع صوته في نوعٍ موسيقيٍّ معروفٍ بأنّه صوت الشّارع. بهذا الانقلاب البسيط، تتحوّل الأغنية إلى مساحةٍ ينتزع فيها الطفل حقّ الكلام الذي حُرِمَ منه في البيت، في المدرسة، وفي الحيّ. صوته العالي على الإيقاع السّريع يذكّر بأنّ مَن يُطْلَبَ منهم الصّمت غالباً ما يكونون الأقدر على وصف الحقيقة.
الحيّ الشّعبيّ.. مدينةٌ أخرى داخل المدينة
الكليب يأخذنا إلى شوارع ضيّقة، جدرانٍ متشقّقة، بناياتٍ متلاصقة، أطفالٍ يلعبون في طرقاتٍ ليست مُصَمَّمَةً للّعب أصلاً. هذه ليست المدينة التي تُعْرَضُ في الإعلانات السّياحيّة؛ لا مقاهٍ أنيقة، لا واجهاتٌ زجاجيّة، لا حدائق مُنَسَّقَة. هنا نسخة أخرى من المدينة، مدينة الفقراء، “المدينة الخلفيّة” التي تبقى عادةً خارج الكاميرا.
في هذه الأزقّة، تُرَبّى الطّفولة على الاحتكاك المباشر بالخشونة، الأرض ترابٌ أو إسفلت مُتْعَب، الرّصيف مكان جلوس، الشّارع مساحة لعبٍ وخطرٍ في آنٍ واحد. تفاصيل صغيرةٌ – مثل ضيق المساحة، كثافة الجدران، تآكل الطّلاء – تنقل شعوراً مستمراً بالضغط؛ كأنّ الهواء نفسه أقلّ.
بهذا التصوير، لا تبدو المدينة فضاءً محايدا؛ بل طرفاً في الحكاية. شكل المباني، ضيق الطّرقات، غياب المساحات الخضراء، كلّها تتحوّل إلى عناصر تُشارِكُ في صناعة الإحساس بالاختناق. الطفل لا يشتكي من أشخاصٍ فقط، بل من فضاءٍ كاملٍ لا يمنحه مُتَنَفَّسا.
العائلة وحدود الحماية
خلف صوت الطّفل، يلوح ظلّ الأب أو “الكبير”. هناك دائماً من يقول له: لا تتكلم، لا تشتكي، أنت لا تفهم. العائلة هنا ليست شرّيرة، لكنها ليست ملاذاً خالصاً أيضا. الكبار أنفسهم مُثْقَلونَ بالهموم، بالعجز، بضغط الفقر والبطالة، فينقلون هذا الثّقل إلى الصّغار في شكل أوامر وصمت.
يشعر الطّفل بأنّه محاطٌ بحائطَين، حائطٌ خارجيٌّ هو الدّولة ومؤسّساتها، وحائطٌ داخليٌّ هو العائلة التي تريده أنْ ينسجم مع “القدر” وألّا يطرح أسئلةً مُزْعِجة. وسط هذا التّكوين، يصبح البيت نصف ملجأٍ ونصف سجن. يمنح الدّفء أحيانا، ويمنع الكلام أحياناً أخرى.
اللّافت أيضاً غياب الأمّ تقريباً عن المشهد البصريّ والصوتيّ؛ تكاد لا تُذْكَر. هذا الغياب يعزّز مركزيّة الصّوت الذّكوريّ في القرار والسّرد، الأب هو المرجع، والابن هو الذي يحاول كسر دائرة الصّمت. بذلك، تتكرّس بُنْيَةٌ تُبْنَى فيها السّلطة أوّلاً داخل البيت، قبل أنْ تمتدّ خارجه.
المدرسة.. طريق مسدود لا سلّم صعود
المدرسة في المخيال الرسميّ توصف بأنّها “طريق المستقبل”. لكن في “يا ليلي”، تلمع صورةٌ مختلفة: دفاتر، ألواح حائط، جوٌّ خانق، حضورٌ لسلطة المعلّم أكثر من حضور المعرفة ذاتها. لا يشعر الطّفل بأنّه في مساحةٍ تفتح له أبوابا، بل في مكانٍ يضيف له قيداً جديدا.
يتسرّب الإحساس بأنّ التّعليم، في سياق الفقر والتّهميش، لم يعد وعداً صادقاً بالحركة إلى الأعلى، بل مرحلةً إلزاميّةً تُقْضى ثم يُعاد بعدها إنتاج الوضع نفسه، شهادةٌ بلا عمل، أو عملٌ لا يحتاج أصلاً إلى كلّ هذا الجهد الدّراسي. لهذا يبدو ارتباط الطّفل بالمدرسة باهتا؛ لا يراها سلّما، بل طريقةً لتعلّم النّظام والطّاعة والانضباط لا أكثر.
بهذه الصّورة، تُظهر الأغنية وجهاً من وجوه الخيبة، حين تتحوّل المؤسّسة التي يُفْتَرَض أنْ تكسر حلقة الفقر إلى جزءٍ من الحلقة ذاتها.
الخوف اليوميّ والعنف الذي لا يُرى
نعيش مُعَذَّب، نعيش مُهَدَّد، نعيش مُكَبَّل. هذه العبارات تختزل إحساساً بثقلٍ دائم؛ ليس ثقل حادثةٍ عابرة، بل ثقل حياةٍ بأكملها. الطّفل لا يصف مشهداً واحداً من الضرب أو الإهانة، بل حالةً عامة، توتّرٌ مستمرّ، ترقّب، خوفٌ من الغد، إحساسٌ بأنّ الخطر يمكن أنْ يأتي من كلّ الجهات.
العنف هنا ليس فقط صفعةً أو صراخا، بل أيضاً فواتير لا تُدْفَع، عملٌ لا يأتي، شرطةٌ في الشارع، نظرة استعلاءٍ من “أبناء الأحياء الرّاقية”، شعورٌ دائمٌ بأنّك في مرتبةٍ أدنى. هذا النّوع من العنف يتسلّل بصمتٍ إلى تفاصيل اليوم، في طريقة الكلام مع الطّفل، في أسلوب الرّقابة عليه، في تذكيره الدائم بحدوده.
يترسّخ تدريجياً لدى الصغير شعورٌ بأنّه “مربوطٌ” إلى مكانه، حيّه، طبقته، وضعه الاجتماعيّ. ليس مصادفةً أن تتكرّر كلماتٌ مثل “مُكَبَّلٌ” و”مُهَدَّد”: القيود ليست مادّيّةً ملموسة، لكنّها أشدّ قسوةً لأنّها لا تُرى ولا تُكسر بسهولة.
حلم الطيران بعيداً
وسط هذا الضّغط، يظهر الحلم، “نحبّ نطير ونطير بعيد بعيد”. ليس حلماً باللّعب فقط أو بامتلاك شيءٍ بسيط، بل حلماً بالرّحيل من الجذور. أنْ يحلم طفلٌ بالطيران بعيداً يعني أنّ المكان القائم لم يعد قابلاً للعيش بالنّسبة له.
في السّياق المغاربيّ، هذا “البعيد” غالباً ما يعني الضفّة الأخرى من البحر، أوروبا التي تُبْنَى حولها أسطورةٌ كاملة، هناك عمل، كرامة، قانون، حياةٌ أفضل. حتى لو لم يذكر النّص بلداً بعينه، تكفي صورة “الطّيران” لتستحضر قوارب الهجرة غير النّظامية، قصص “الحَرّاقَة”(وهي مصطلحٌ مغاربيٌّ يعني الهجرة غير الشّرعية وحرق الأوراق الثّبوتيّة)، ومآسي البحر.
الهروب هنا لا يبدو خياراً فردياًّ فقط، بل ردّ فعلٍ جماعيّاً على انسداد الأفق. حين تصبح فكرة الرّحيل جزءاً من خيال الطفولة نفسها، فهذا يعني أنّ الأمل في إصلاح الدّاخل صار ضعيفاً لدرجةٍ دفعت المخيّلة إلى البحث عن الخلاص في مكانٍ آخر بالكامل.
الراب ولازمة “يا ليلي ويا ليلا”: هويّة هجينة
اختيار الراب كإطارٍ موسيقيٍّ يمنح الشّكوى شكلاً إيقاعيّاً يغلب عليه التّدفّق الكلاميّ؛ كأنّ المُتَحَدّث يَلْهَث ليلحق بكلّ ما يريد قوله قبل أنْ يُفْرَض عليه الصّمت من جديد. الراب هنا امتدادٌ لثقافةٍ عالميّةٍ خرجت من أحياء مُهَمَّشةٍ أخرى في العالم، لكنّها تتلوّن بلكنةٍ تونسيّةٍ وبوجع خاص بهذه الأرض.
في المقابل، تحمل لازمة “يا ليلي ويا ليلا” رائحة أغانٍ شعبيّةٍ وتراثيّةٍ تتغنّى بالليل، بالشكوى، وبالبوح. الجمع بينهما يخلق هويّةً موسيقيّةً هجينة، نصفها مُتَجَذِّر في الذّاكرة الجماعيّة، ونصفها الآخر مُسْتَعارٌ من ثقافاتٍ هامشيّةٍ أخرى. هذا التّزاوج يقول شيئاً عن الجيل الذي ينتمي إليه صاحب الأغنية، جيلٌ يقف بقدمٍ في “الحومة” (المنطقة، الحي السّكنيّ، الجيران) وبقدّم أخرى على يوتيوب وإنستغرام؛ متمسّكٌ بلهجته وتراثه، لكنّه يتكلّم بلغات الإيقاع العالميّ أيضا.
الجدران والوحوش.. صور الخوف
الكليب مليءٌ بالجدران، بالأبواب المغلقة، بالشّبابيك ذات القضبان؛ كأنّ المكان بأكمله يأخذ شكل سجنٍ كبير. يجري الطفل أحيانا، يغيّر الزّقاق، يصعد، ينزل، لكنّنا نشعر أنّه لا يغادر الدّائرة نفسها. الحركة بلا خروجٍ صورةٌ مُكثَّفةٌ لحياةٍ تتكرّر تفاصيلها من غير أنْ تتغيّر نتيجتها.
في بعض المقاطع، تظهر كائناتٌ أو صورٌ قريبةٌ من الوحوش والكوابيس؛ هذه ليست زخارف بصريّةً عشوائية، بل تجسيداً لما لا يُقال. خوف الطّفل من الشّرطة، من العقاب، من الغد، من الفقر… كلّها تتحوّل إلى أشكالٍ مُخيفة، تراقبه، تحاصره، تلاحقه في الحلم واليقظة.
هكذا تُصاغ حالة ٌداخليّةٌ بلغة الصّورة، المدينة لا تخيف فقط بأمراضها الملموسة، بل أيضاً بالأشباح التي تزرعها في خيال أبنائها منذ الصّغر.في دقائق معدودة، ترسم “يا ليلي” لوحةً مُكثَّفةً لحياة طفلٍ في حيٍّ شعبيٍّ عربيّ، صوتٌ صغيرٌ يعلو فوق إيقاع راب، في مدينةٍ متعبة، بين عائلةٍ مُرْهَقَةٍ ومؤسّساتٍ لا تمنح الأمل، تحت سقف وطنٍ يُخَيَّل إليه أنّ الخلاص الوحيد منه هو الرّحيل عنه.
تكشف الأغنية كيف تُرَبّى الطّفولة أحياناً على الخوف قبل اللّعب، على الصّمت قبل الكلام، وعلى فكرة الهرب قبل فكرة البناء. نرى فيها كيف يمكن لحيٍّ واحدٍ أنْ يتحوّل إلى نموذجٍ مُصَغَّر عن مجتمعٍ كامل، طبقاته، هوامشه، سلطاته، أحلامه المكسورة.
ومع ذلك، وسط هذا السّواد، يبقى هناك عنصرٌ لا يمكن تجاهله، الفعل نفسه المُتَمَثِّل في الحكي. مجرّد أنْ يتحوّل هذا الطّفل إلى راوٍ، وأنْ تُسْمَع قصّته على نطاقٍ واسع، يعني أنّ جدار الصّمت لم يعد كما كان. تتحوّل الشّكوى إلى نصٍّ عامّ، والألم إلى أغنيةٍ يعرفها الملايين.
ربما لا تغيّر “يا ليلي” الواقع مباشرة، لكنّها تجعل رؤيته أوضح؛ تزيح السِّتارة عن عالمٍ كان يُفْهَم غالباً بصورةٍ سطحيّةٍ أو نمطيّة. ومن خلال هذا الوضوح، يصبح السّؤال مُعَلَّقاً أمام الجميع: أيّ مستقبلٍ يمكن أن يُبْنَى لمجتمعٍ يرى أطفاله منذ البداية أنّ الطّريق الوحيد إلى الحياة هو أنْ “يطيروا بعيداً بعيدا”؟
