حين توقّفت الحافلة الصّغيرة عند المنعطف الأخير، أحسّ كأنّه صعد إلى السّماء أكثر مما صعد إلى الجبل.
تحت الطّريق مباشرةً، كان الوادي غارقًا في بحرٍ من السّحاب. أسطح البيوت البعيدة لا تُرى، ولا ينكشف من القرية في الأسفل إلا طرف مئذنةٍ معزولةٍ تشقّ الغيم مثل إبرةٍ. الهواء هنا أبرد، أرقّ، وله رائحةٌ معدنيّةٌ خفيفةٌ كأنّه يخرج تَوًّا من قلب الصّخر.
أخذ حقيبته القديمة، ونزل ببطءٍ إلى الطّريق الضيّق المؤدّي إلى القرية الجبليّة. تغيّر الكثير، بيوتٌ إسمنتيّةٌ جديدةٌ، أسلاك كهرباءٍ متشابكةٍ، بضع متاجر صغيرة لم تكن موجودةً من قبل. لكنّ الجبل نفسه، بخطوطه الحادّة وأشجاره الخضراء الدّاكنة، بدا كما هو، لا يعبأ بما يبنيه الناس ولا بما يهدمونه.لم يأتِ إلى هنا منذ أكثر من عشرين عامًا. حين كان في السابعة عشرة، أرسله أبوه المرهق إلى هذه القرية ليمضي فصلًا دراسيًا بعيدًا عن هواء المدينة ودخانها، “حتى يتعلّم أن يتنفّس من جديد”، كما قال.
لم ينسَ من تلك الشهور شيئًا، لا لأنّ شيئًا كبيرًا حدث فيها، بل لأنّ كل ما حدث كان صغيرًا بما يكفي ليبقى.
2
أقام يومها في نُزُلٍ قديمٍ قريبٍ من نبع مياهٍ. كان النّزل خشبيًّا، له ممرّات تضجّ في الليل بأصوات الأقدام الخفيفة وصرير الأرضيّة القديمة، وتفوح منه رائحة دائمة لمزيج من الشاي والخشب الرّطب وقشور الحطب والأعشاب اليابسة التي تضعها صاحبة النزل في حوض الحمام.في صباحه الثاني هناك، دلّته صاحبة النّزل على الدرب الذي يصعد إلى أعلى نقطة تلّ يطلّ على الوادي. قالت له وهي تملأ إبريق الشاي:”إن صعدت في هذا الوقت، سترى السّحاب من تحتك. هناك شجرة كرز وحيدة، ظلّها بارد حتّى في أوّل الصيف.”صعد.كان الدّرب يلتوي بين مدرّجاتٍ صغيرةٍ من حقول القمح والعدس والحمّص، ثم يضيق حتى يصير مسلكًا حجريًا يخترق غابة سنديانٍ كثيفةٍ. كلّما ارتفع، رقّ الهواء أكثر، وازداد الصّمت وضوحًا، حتى صار يسمع دقّات قلبه، وحفيف ثيابه، وخرير جدولٍ بعيدٍ لا يُرَى.
وحين خرج من ظلّ الأشجار، وجدها.
شجرة كرزٍ وحيدة، متشبّثةٌ بحافة منحدرٍ حادٍّ، جذعها مائلٌ قليلًا نحو الفراغ، وأغصانها تمتدّ فوق هوّةٍ مملوءةٍ بالبياض. تحتها، لم يكن هناك وادٍ أخضر ولا بيوت، بل بحرٌ واسع من الغيم السّميك، هادئ وساكن، كأنّ الجبل ارتفع أكثر ممّا ينبغي.
لم يكن وحده تحت الشّجرة.
كانت هناك فتاة، تجلس على صخرةٍ مسطّحةٍ قريبةٍ من الجذع، تلفّ على كتفيها شالًا صوفيًا أزرق، وتمسك كتابًا مفتوحًا على ركبتيها. شعرها الأسود مربوطٌ إلى الخلف، لكن خصلاتٍ قصيرةً منه ظلّت تتفلّت مع الريح.
لم تلتفت حين اقترب، كانت عيناها معلّقتين بشيءٍ بعيدٍ، ربّما في السّطور، وربّما في الغيم.
تردّد، أيعود أدراجه، أم يمرّ بصمت ويكمل طريقه؟ لم يكن فوق الشجرة شيءٌ آخر، لا مزارٌ ولا طريقٌ آخر. كانت الشجرة نهاية الطريق، ونهاية التردّد.
تناثرَتْ من فوقهما بضع بتلاتٍ بيضاء، لا يُدرى أهي من الشجرة أم من ذكرى ثلجٍ لم يذب كلّه بعد. حين سقطت إحداها على طرف كتابها، رفعت رأسها أخيرًا.
كانت عيناها داكنتين، وفيهما ذلك البريق الواهن الذي يظلّ أحيانًا في عيون من أنهكهم المرض. ابتسمت ابتسامة قصيرة كأنّها تعتذر عن وجودها في المكان قبل أن يسبقها.
قالت:
“لا تقلق… أنا لا أحتلّ الشجرة وحدي.”
ضحك، ثم جلس على بُعد خطوةٍ منها، في المكان الذي لا يبدو قريبًا حدّ الجرأة، ولا بعيدًا حدّ الجفاء.
سألته، وهي تشير إلى السحاب الممتدّ تحتهم:
“أليست هذه المرّة الأولى التي ترى فيها القرى من تحت الغيم؟”
هزّ رأسه:
“في مدينتنا… لا نرى سوى الغبار من فوقنا.”
أغلقت كتابها، وأسندته على حجرٍ قربها كأنها تنهي عالمًا لتفتح آخر.
“هنا، إن استيقظتَ باكرًا، ترى الأضواء تحت السحاب. كأنّ النجوم هاجرت إلى الوادي.”
قالت اسمها بعد قليل، كأنّها تضيف معلومة عابرة:
لم يسأل إن كان ذلك حقًّا اسمها، أم اسمًا اختارته لنفسها في هذه القرية العالية. كان الاسم ينساب من فمها خفيفًا، وفيه برودة الثلج الذي لا يصل إلى المدن.
أخبرته أنّها جاءت من المدينة الساحلية البعيدة، لتقيم بضعة أشهر في مصحّ صغير قريب من النّزل، “حتى تشفى رئتاها من هواء البحر والرطوبة”، كما قالت الطبيبة. ضحكت وهي تضيف:
“يبدو أن كلّ شيء لا بدّ أن يبتعد عن مكانه قليلًا، حتى يتعلّم كيف يعيش.”
لم يقل لها إنّه أيضًا هنا “يتعلّم كيف يتنفّس من جديد”. شعرت الكلمة في فمه أعرض من أن تخرج ببساطة. اكتفى بأن يغمض عينيه قليلًا، ويستمع معها إلى هديرٍ خافت يأتي من الوادي البعيد، لا يُدرى أهو ماء أم رياح أم مجرّد توهّم.
3
صار يلقاها هناك كلّ صباحٍ تقريبًا.
كان يصعد قبل الدّرس بساعةٍ، فيجدها غالبًا وصلت قبله، تجلس في المكان ذاته، وفي يدها كتابٌ مختلفٌ. مرّةً مجموعة قصصٍ قصيرةٍ، ومرّة ديوان شعرٍ قديمٍ، ومرّة دفترٌ صغيرٌ تكتب فيه شيئًا لا تدعه يراه.
في بعض الأيام، كان الغيم منخفضًا جدًّا، حتى يكاد يلامس أطراف أحذيتهما. فيبدو ما تحتهما بلا قاعٍ. يقول لها حينها:
“لو قفزتِ الآن، ستهبطين على شيءٍ ناعمٍ.”
تهزّ رأسها:
“الغيم ناعم للعين فقط… لكنّه قاسٍ على الجسد. مثل أشياء كثيرةٍ.”
لم يكونا يتحدّثان كثيرًا. بين جملةٍ وأخرى كان يمتدّ صمتٌ طويلٌ، لا يثقل على أحدهما. كان يكفي أنْ يسمعا معًا حفيف الشّجرة، وصوت صفحةٍ تُقلَبُ، أو مُعلِّمًا في القرية البعيدة يقرع الجرس بطريقةٍ مبالغٍ فيها.
في إحدى المرّات، جاء وفي يده كيسٌ صغيرٌ من الكستناء المشويّ، اشتراه من السّوق الوحيد في القرية. ناولها واحدةً، فأمسكتها بكلتا يديها، كأنّها تحمي جمرةً صغيرةً من الرّيح.
قالت وهي تنفخ عليها برفقٍ:
“بعض الأشياء لا يمكن أنْ تأكلها وحدك. طعمها ناقص إنْ لم يكن هناك من يشاطرك بها.”
لم تسأله عن حياته في المدينة، ولم يخبرها. لم يسألها عن مرضها، ولم تخبره. كانا يتركان لتبادل النَّفَسِ تحت الشجرة أنْ يقوم مقام الأسئلة الكثيرة.
في صباحٍ رماديٍّ، حين صعد وهو يلهث قليلاً من البرد، وجدها بلا كتابٍ. كانت تنظر إلى الوادي الذي بدأ الغيم ينكشف عنه ببطءٍ، فتهادى أمامهما سطح النّهر الفضيّ، وأسقف البيوت الدّاكنة.
قالت دون أن تلتفت:
“سأنزل من الجبل قريبًا.”
احتاجت جملتها إلى وقتٍ حتى تصل إليه تمامًا، كصوتٍ يتردّد بين الصخور.
“قريبًا؟ متى هو قريبًا هنا؟”
ابتسمت ابتسامةً مائلةً:
“حين يذوب الثّلج الأخير. تقول الطبيبة إنّ هوائي هنا يكفي لما تبقّى من علاجي. بعد ذلك… ستعود رئتاي إلى هواء البحر، أو إلى أيّ مكانٍ آخر تنتظرني فيه حياتي.”
لم يعرف ماذا يجيب. نظر إلى الشّجرة فوقهما، فلم يرَ بعد أثرًا واضحًا لثلجٍ أو ذوبانٍ. في الأعلى، كان الجبل ما زال يحتفظ ببياضٍ رقيقٍ على قمّته، كقطنٍ وُضِعَ بخفّةٍ على حجرٍ.
في الأيّام التالية، صار ظلّ كلماتها يرافقهما في كلّ لقاءٍ، في طريقة جلوسها، في صمتها الأطول من المعتاد، وفي نظراتٍ تعلّق أحيانًا بالشجرة، أكثر مما تعلَّق بالوادي.
4
في صباحٍ باردٍ على غير عادة الرّبيع، وجدها تنتظره وهي تمسك ذلك الدّفتر الصغير الذي لم تكن تدعه يراه.
ناولته الورقة الأخيرة منه منزوعةً بعنايةٍ.
“كتبنا في صفّ العلاج بالفنون أن نحاول شيئًا يشبه القصائد القصيرة. كَتَبْتُ هذه… لكنّي لم أستطع قراءتها أمام الباقين.”
قرأ:
“شجرة كرزٍ
فوق وادٍ من السّحاب
القلب… أين يقع؟”
لم يجد ما يقول. أعاد الورقة إليها، لكنّها هزّت رأسها، وأغلقتها في قبضته.
“احتفظ بها. ليس لديّ جيبٌ يكفي لها في الثّياب التي سأرتديها حين أنزل.”
لم يسألها متى بالضبط ستنزل. كأنّ السّؤال نفسه قد يدفع اليوم إلى الاقتراب أكثر.
في اليوم التالي، لم يجدها تحت الشّجرة.
انتظر حتى صعدت الشّمس عاليًا، وتراجع الغيم عن الوادي تمامًا، وارتفعت أصوات الباعة في السّوق البعيد. لم تأتِ.
في المساء، حين عاد إلى النّزل، أخبرته صاحبة المكان أنّ سيارة المصحّ أخذت “البنات” إلى المدينة في الصّباح الباكر، قبل أنْ يستيقظ. لم تذكر اسمًا، ولم يحاول أنْ يشرح أيُّهنّ يعني.
في ليلته تلك، سمع الجبل أكثر من أيّ وقتٍ مضى. سمع تصدّع الجليد في الشّقوق الخفيّة، وسقوط حصاةٍ صغيرةٍ من المنحدر، وحفيف الشّجرة في العتمة البعيدة. أحسّ أنّ كلّ ما في الجبل يتحرّك مبتعدًا، مثله.
بعد أعوامٍ قليلةٍ، حين عاد إلى المدينة الكبيرة، ونسي رائحة الخشب الرّطب، ظلّت الورقة الصّغيرة مطويّة في كتابه المدرسي القديم، بين درسٍ عن الكيمياء، وفقرةٍ عن “طبقات الجوّ”. كان قلبه حين يفتح الكتاب بعد ذلك يخطئ في اختيار أيّ الطبقات تعنيه.
5
الآن، بعد أكثر من عشرين سنة، صعد الدّرب نفسه.
كان أكثر عبثًا هذه المرّة: صدره يضيق أسرع، وركبتاه تحتجّان في المنعطفات الحجريّة. الأشجار على جانبي الطّريق أكثر سماكةً، لكنّها أقلّ ارتفاعًا مما ظنّ؛ ربّما لأنّه هو الذي ارتفع داخل نفسه يومًا، لا الأشجار.
حين خرج أخيرًا إلى العراء، لم يجد الشجرة.
لم يبقَ في حافّة المنحدر سوى عمودٍ حديديٍّ قصيرٍ، وبين عمودين فقط سلسلةٌ صدئةٌ، علامة على أنّ الجبل صار يُحَاطُ بالحذر، لا بالسّكينة. في الأسفل، كان السّحاب أقلّ كثافةً، والوادي أكثر انكشافًا. تطاولت مبانٍ جديدةٍ حيث كان الوادي ضيّقًا، وتقطّع صوت النّهر بما يشبه هدير سيارةٍ لا يراها.
وقف في المكان تقريبًا حيث كان يجلس شابًا. لم يحتج إلى شجرةٍ ليعرف موضع الظلّ القديم؛ كان جسده يحفظه.
مدّ يده إلى صدره، كما لو أنّ الورقة ما زالت مطويّةً في جيب قميصه. كان قد أضاع الكتاب منذ سنين، لكنّ السطور الثلاث ظلّت محفوظةً فيه، تطفو أحيانًا إلى سطح الذّاكرة بلا سببٍ واضحٍ.
همس، لا يدري أَلها أم للجبل:
“شجرة الكرز رحلت… والسحاب تفرّق. أمّا القلب… فبقي معلّقًا هنا.”
شعر أنّ الزمن، في تلك اللحظة، تراجع خطوتين إلى الوراء. عاد هو فتىً يلتقط أنفاسه بصعوبةٍ في الهواء البارد، ويخفي ارتجاف أصابعه وهو يأخذ ورقةً من يد فتاةٍ تحت شجرةٍ وحيدةٍ.
في الأسفل، دوّى نباح كلبٍ من القرية، تردّد صداه في الوادي، وارتدّ خافتًا إلى موضعه على الحافّة. التفت مرّةً واحدةٍ إلى المكان الذي لم تعد فيه شجرة، ثم بدأ ينزل ببطءٍ.
كان يعرف أنّه، أينما ذهب بعد ذلك، لن يرى سحبًا تتكوّم فوق مدينةٍ أو بحرٍ، إلا ويتذكّر لحظةً واحدةٍ، بعيدة، كان فيها السّحاب تحت قدميه، وفتاةٌ باسم الثّلج إلى جانبه، وحبٌّ أوّل لم يجد شجاعةً تكفي ليهبط من الجبل معهما.

د. سعيد عيسى