المقال الأسبوعي ناصر عراق في الوفد/ حتى نلتقي
أتخيل أحيانا أنه ما من رجل ذاق عسل السعادة في الحياة مثلما تذوقه الموسيقار الأعظم محمد عبدالوهاب، وأكاد أجزم أنه ما من رجل غمرته الأيام بوابل من أنهار الفرح كما غمرت الأيام صاحب (الجندول)، وسأوضح لك توًا حجم السعادة التي انهمرت في صدر الرجل بامتداد ثلاثة أرباع القرن
عاش الرجل 94 عامًا، فهو من مواليد 13 مارس 1897 كما كتب الناقد الموسيقي الراحل كمال النجمي في كتابه المهم (عبدالوهاب مطرب المائة عام)، والذي خصص الفصل الأول كله ليثبت بأدلة عديدة أنه ولد في 1897، وليس في 1910 كما زعم عبدالوهاب نفسه، أو في 1902 كما تقول بعض المصادر الأخرى
عاش صاحب (كليوباترا) هذا العمر المديد في صحة جيدة بشكل عام، والصحة الجيدة مصدر رئيسي من مصادر السعادة، ولك أن تتعجب حين تراه يتحدث في البرامج التليفزيونية وقد تجاوز التسعين، وهو في كامل أناقته: ذاكرة حاضرة… ثقافة موسوعية… لا رعشة ولا اضطراب في أعضاء الجسد، وإذا كانت عيناه قد أصابها الكثير من العطب مع مرور الأيام والسنين والعقود، فإن ذلك العطب لم يشوش على صاحبه أو يؤذي بقية جسده
تعرف عبدالوهاب إلى أمير الشعراء أحمد شوقي عام 1924، فصار لصيقا به طوال ثماني سنوات كاملة حتى رحل الأمير في 1932، الأمر الذي وفر للشاب آنذاك فرصة ذهبية لتلقي المعارف الجمة في أنقى صورها وأبهاها، إذ مع شوقي بات عبدالوهاب يجالس أكابر المصريين في المجالات كافة أمثال سعد زغلول ومصطفى النحاس وأحمد لطفي السيد وطه حسين وعباس العقاد (الذي كتب شعرًا في مديح عبدالوهاب)، وعبدالعزيز البشري وجورج أبيض ونجيب الريحاني ويوسف وهبي والنحات الفذ محمود مختار وعشرات غيرهم من رموز حياتنا السياسية والإبداعية، وبالتالي أمسى التحصيل المعرفي الذي يعكف عليه عبدالوهاب مصدرًا آخر من مصادر السعادة
أما بخصوص المرأة، مستودع السرور الدائم لكل رجل، فصاحب (جفنه علم الغزل) عشق النساء وتمتع بهن، وعشقته النساء وحلمن به، وقد تزوج ثلاث مرات، ثم أضاف إلى رصيده العامر في بنك السعادة أحد أهم رموزها، وهي الذرية، إذ أنجب الرجل خمسة أبناء: ولدان وثلاث بنات، وكبر الأبناء وتزوجوا وأنجبوا، فانتقل عبدالوهاب من متعة الأب إلى فرحة الجد
تتبقى أم المتع كلها المتمثلة في (ممارسة الإبداع)، فالفن كما قال ماركس (هو أعلى درجة من درجات الفرح يستطيع أن يهبها الإنسان لنفسه). وعبدالوهاب ظل طوال 75 عامًا على الأقل يغني ويلحن فيستمتع ويمتعنا معه
لا تنس رجاء متعة الثراء ولذة الشهرة وعظمة المجد، وقد نال الرجل من المال والشهرة والمجد ما لم ينله أي فنان آخر، إذا استثنينا أم كلثوم
باختصار… (عبدالوهاب أسطورة… ونحن محظوظون لأننا عشنا في زمن هذه الأسطورة)… هكذا قالت فاتن حمامة فور رحيله في 4 مايو 1991
حقا… السعادة تليق بعبدالوهاب