لم يلتفت إليها أحد، في غمرة انشغال كل واحد بنفسه، صراخ الحناجر يتماوج، والقافلة تسير ببطء وكأن الزمن يبدو متوقفا، النفوس ثائرة أشبه ببركان أمده الاحتقان لينفجر، واللهيب ينبثق من الأعين والأكف، أما هي فبقيت على انزوائيتها تلك، وعيناها تنظران بلهفة إلى ما خلف السياج وإمارات القلق والحيرة تعصف بها، يحدوها الأمل فتبرد سحنتها، ثم يمضها الانتظار فتقلقل في وقفتها رغم عمرها الستيني. والجسد المتهالك لا يقوى على وقوف رجليها المتعبتين، فتجلس هنيهة وقد أعياها الانتظار ويداها تشاغلان بتوتر، تارة بحبيبات الرمل حولها وطورا بشالها الأسود الذي ما فتئ ينزاح عن كتفيها كأنما أعياه صبره أيضا، تتلقفه ثم تعيد إلقاؤه إلى الخلف وتعود تركن فينكسر نظرها نحو الأرض من جديد غارقة في عالمها غير عابئة بما يجري حولها.
بارد هو الانتظار كالثلج، لا يخفف من صقيعه إلا دفء الشوق. وتتذكر أم محمد تلك الليلة كأنما هي بالأمس، لطالما استرجعتها مرات ومرات صبحا وظهرا ومساء، حتى باتت رفيقة عمرها المتعب. لم يهنأ نهارها بليل تذكره، ويد أمها تهزها بعنف في فراشها المهترئ، أتعبها حلمها ولم يتعب، حتى باتت أدق تفاصيله جزءا منها، ورأت نفسها وهي ابنة ثمانية تستيقظ مشدوهة تتطلع نحو أمها بوجهها المرتعب، وأصوات صراخ وولولة وأزيز رصاص وطلقات متتابعة في الخارج، تطلعت إلى أخوتها بيسان ومحمد وفارس وقد أعيت الصدمة والرعب ألسنتهم، ثم رأت شقيقها محمود الذي يبلغ أحد عشر من العمر متعلقا بثياب أمه يرتجف وقد تحلب ريقه، وضاقت حنجرته فمأمأ لاهثا: يمه، يمه، شو نعمل؟ شو نساوي؟ “اهربوا، قالت الأم “اهربوا” كررتها كأنما لا تمتلك سواها من الكلمات، ولكن إلى أين؟ وكيف؟ حتى هي لم تكن تدري، وكل ما فعلته أنها فتحت الباب على مصراعيه، وأخرجت أولادها حتى قبل أن تعي ما يحصل.
كانت ساحة “أم الفحم” قد جنت، أطفال ونساء يتراكضون، متعثرين بالجثث، وأوجه تداس وأيد ترتطم والظلام ينيره الرصاص المتطاير وتمزقه وحشية الصراخ، وجنود يطلقون النار على كل ما يتحرك، تطلعت تبحث عن أخوتها، ورأت أخاها محمود متكورا على جنبه يفحص الأرض بقدميه العاريتين، وأمعاءه النازفة مضغوطة بيديه الصغيرتين دون جدوى سمعته يحشرج في ذهول: يمه – يمه، ولا من مجيب. كانت أمه على بعد أمتار منه مصابة برأسها، ثم رأت شقيقها محمد يجره جندي من شعره نحو المجهول، صراخه ما زال يرافق ليلها وهي أعجز عن فعل شيء وأعجز عن النسيان، وأما فارس فلم تعرف أبدا ما جرى له، كل ما استطاعت فعله أنها راحت تبحث عن أختها بيسان، رأتها مختبئة خلف برميل صغير يستعمل للماء فزحفت إليها على أربع ثم فرتا معا باتجاه الحقول.
لم تعد تدري كم سارت وبيسان، ركضتا حتى الإدماء، سارتا حتى الإعياء، ثم اهمدتا قرب تلة ترابية حتى أيقظتهما شمس اليوم التالي، وحين أنهكهما التعب والجوع مشتا متلاصقتين مترنحتين لا تجرؤان على الوقوف خشية لحاق القتلة بهما، وأخيرا ضمتهما قافلة الهاربين دون أن يلتفت أحد إليهما، فلكل مصيبته.
لم تبتعد القافلة كثيرا، طلقة رصاصة واحدة أطاحت بالخط الطويل من الهاربين وانفرط عقدهم، وافتقدت بيسان فلم تجدها، لم يكن بمقدورها التوقف للبحث عنها واستمرت تعدو، وأسعفها العمر فوصلت الحدود اللبنانية، وهناك في الرشيدية عطف عليها من عطف وآواها من آوى، فاستكانت يحدلها الزمن بسنيه… يبس حزنها وجف الدمع ولم تتركها الحياة، عليها مواصلة الدرب فتزوجت ثم أنجبت وفي الفؤاد جمرة تأبى أن تنطفئ.
مرت الأيام والسنون، وعلمت أن بيسان حية ترزق، ومنزلها على مرمى حجر من القاطع الآخر من الحدود في قرية المزرعة، فاشتعل لهيب شوقها وراحت تتلمظ إلى رؤيتها قبل أن تموت ولا أحد يكفل العمر أو الزمن، رددت لنفسها مرات، أن الأمل ما زال حيا بها وأيقنت أن الفرصة أتت.
اجتمع الناس عند الشريط الشائك، كل يلقي بنظره لعله يشفي غليله، وعندما رفعت رأسها أبصرتها، عرفتها رغم تهدل الجفنين من الهم وبروز أخاديد وجهها من الألم والقهر، وثبت كأنما صاحبها الشباب وهرولت على عجل إلى الشريط الشائك وهي تشرق بالدمع والكلمات والتقتا ومعدن رقيق يفصل بين العناق والقبل والدمع، تلامست الأنامل وطالت النجوى، حتى كاد المغيب ينسى مغيبه، فحان وقت الفراق، عندها ترجت أم محمد من أختها “بيسان” : “أعطني كمشة تراب من فلسطين أتقوى بها… حتى نلتقي ”