
كنت في كثير من الأحيان في زمن فات أنسب معظم مشكلات مجتمعنا للحكومة والدولة، ويبدو أن هذا هو أسلوب معظم الناس الذين يركنون لأسهل مبرر يقفز لذهنهم ولا يريدون اجهاد أنفسهم في تحليل المواقف ومحاولة إرجاع الأمور لنصابها الصحيح.
إلى أن ارتقيت في الوظيفة الإدارية وبدأت أتعامل مباشرة مع صناع القرار ممن يتقلدون الوظيفة الإدارية الأعلى فهالني أسلوب تفكيرهم وعرفت بل ايقنت وقتها ان الحكومة ليست دائما هي السبب ولكن هناك عيوبا في تفكيرنا لم نغيرها بعد وتأتي خطورتها عندما يتبناها صناع القرار في مؤسسات الدولة العامة او الخاصة.
وان تغييرها هو ما من شأنه أن يغير الواقع.
من هذه العيوب وهو مما أزعم أنه من أسباب تأخر أي دولة- والدولة قوامها مؤسسات- هو سيادة التفكير الفردي في إدارة أي مؤسسة وغياب الفكر المؤسسي.
غياب الفكر المؤسسي يعني سيادة نظرية الادارة القديمة التي تركز على المدير الملهم الذي يفهم في كل شيء وعلى عاتقه وحده تقوم مسؤولية النهوض بالمؤسسة وبالتالي فهي تعني غياب ديموقراطية القرارات.
تأتي خطورتها أيضاً من امكانية رفض اقتراح من أحد منسوبي المؤسسة أو حتى من خارجها قد يصعد بالمؤسسة إلى أعلى أو يحقق لها ارباحاً طائلة- مادية أو معنوية- لإصرار المدير الملهم على الانفراد بالقرارات. ولو عرض الاقتراح على لجنة من المتخصصين لتدارسوه بشكل افضل قبل الموافقة عليه أو رفضه.
ومن عيوب هذه الادارة انها تفقد منسوبي المؤسسة الشعور بالانتماء للمؤسسة التي اضحو فيها أدوات منفذة لا رأي لهم فيها، وهو ما يؤثر بالضرورة على إنتاجهم وبالتالي على مجمل الانتاج.
والواقع هو أفضل برهان على خطأ هذه النظرية إذ من الطبيعي أنه لا يوجد شخص يفهم في كل الأمور، وتخصص في كل المجالات ولديه خبرة في كل مناحي الحياة. ولكن الجالسين على مقاعد القيادة ممن يتبنون نظرية المدير الملهم يتناسون أن قرارا واحداً قد يصعد بالمؤسسة إلى أعلى وقرارا آخر قد يؤخرها عشرات السنوات، ومع هذا يصرون على تبني الفكر الفردي إما إشباعا لأنا مريضة أو لاعتقاد خاطئ أنه يفهم أفضل من غيره. وإذا الزمه القانون بضرورة أن تخرج القرارات من مجالس معينة، وليس من فرد، اختار لعضوية المجلس من يوافقونه على قراراته الفردية.
ولما لم يكن لدي إحصاء أو دراسة علمية تبرر لي ما أستطيع أن أخرج منه بهذا التعميم، إلا أنني يمكنني الحكم انطلاقاً من خبراتي الشخصية وخبرات الآخرين أن هذه الثقافة ما زالت سائدة في كثير من مؤسسات المجتمع وهي ثقافة من الضروري أن يغيرها أي مجتمع إذا أراد التقدم وان يعي الجالسون على مقاعد القيادة أن الفكر المؤسسي هو الفكر الذي يحقق تقدم أي مؤسسة.
ينطلق الفكر المؤسسي من سياسة يضعها مجموعة من المتخصصين تعرض على منسوبي المؤسسة لإدلاء رأيهم وتقديم مقترحاتهم التي يتم دراستها وتؤخذ بعين الإعتبار ثم توافق ادارة المؤسسة على صيغة السياسة النهائية. تظل هذه السياسة قابلة للتعديل والمراجعة المستمرة وفقا لضرورات الظروف ومتغيرات الواقع وأيضا وفقا للتقدم التقني المتسارع وتأثيره على السياسة الموضوعة. وإذا ما تغير رأس المؤسسة، جاء من بعده يكمل الإشراف على تنفيذ الخطة ذاتها.
أما أن يلغي كل رئيس مؤسسة قرارات من سبقه أو الخطة الموضوعة سابقاً ويبدأ بخطة جديدة، فستظل المؤسسة مكانها دون تقدم، هذا ان لم تتأخر للوراء.