رباب الدعيجي / كاتبة من سوريا
من عادة القصائد أنها تزيد الشوق للمجهول، حتى يفيض بك الحنين للحبيبِ، أو تحملك أجنحة الشغف للحبيب، كما من عادةِ الشوق أن يؤرقك. كنت ابحث عن شيء يسليني ويرمِّد لهفتي لأهلي البعيدين ولأحبتي، فصادفني ديوان “وصايا العاشق” لشاعر من فلسطين هو نمر سعدي. لفت نظري العنوان والاسم، وفتحت هذه الوصايا العشقية، وإذ بي قد نسيت الشوق برهة وبدا الليل يلبس قميص الشفافية والرغب، وإذ بالصبح يتنفس عطرا.. كم من الساعات قضيت ووجدتُ تميزا شدَّني، ومررتُ بفسحة للحنين “ضعي بدلَ القلب عصفوركِ الطفلَ / غيمتك المشتهاةَ / الفراشة منثورة في القصائد / كوكبكَ الساحليَّ / دموعَ المساء المدمَّى / وعينين طافيتين على بركة لاحتراقِ الورود / ضعي بدل القلب قلبك” يا لها من مكاشفة صريحة، مباغتة “لن اعيد قراءة طوق الحمامة هذا الشتاء ولا ماريو يوسا ولن / أرى غير وجهك يلمع في ليلِ أحلى المجاز كما يستشفُّ الغريبُ الوطن”.. تأخذك الحيرة وانت تقرأ.. ينقلك الشاعر من عالم إلى عالم وكأنك على بساط الريح. فها هو ليل القصيدةِ يلمعُ ويمسح الصدأ عن الصباحات، ويحلم بالماء، مترجلا ونازلا من مرايا الظمأ.
ما أعذب نصوصه وما أجمل عشقه الذي حكاه بنفسه واستحضرَ آلهة السومرين القدامى وألبسها أجمل الثياب. يالصوره المدهشة التي رسمها بريشة القلب،ولوَّنها بتراب الارض وزيَّنها بألوان العشق، فبزغت كشمس بعد تراكم ثلوج وصقيع في وحول كل شي وما أعظم انتمائه لسهول الكرمل التي زينها بكحل النساء الغريبات وعجنها بحناء طفولته البعيدة وماء حبه الأول. نصوص رقيقة رقة ورد الأبجدية و مضمخة بعطر كعطر رائحة الأرض بعد مطر جاءها بعد جفاف وبللها. أصابتني رعشة الشعر وأنا اتصفح ديوان (رماد الغواية).. أول عنوان يطالعني سبايا الملح يغريني لأن اطوِّف في ثنايا القصائد فكيف لسبايا الملح أن تعيش؟ يشدني أكثر وأكثر لأعرف كيف تشفى جراحهنَّ بالملح، فإذا بشاعرنا ينقش على حجر الورد رسائل لوركا الإسباني، ويطير بأجنحة الأمل فيجعل من الدخان وردة، تفوح بعطر سماوي، ويزرع أغنيات بنفسجية في الطريق، وينتظر ليلا آخر يرتاح فيه العاشقون من المزامير الخفيفة. ويتنقل شاعرنا بصور جمالية تتراقص فيها الأبجدية مع أجساد عاشقاته وتمايل أجسادهن البهية في فردوسه المفقود، تنقلت بين قصائده فإذا أنا بنهر عذب كلما غرفت شربة لأرتوي تطلب نفسي المزيد. كلما قرأت نصا أحسُّ بأني أحلق في كوكب آخر.. وأنتقل بصور تبعدني عن الواقع ثم تعيدني لأرى حولي محبة والتصاقا بكرمل عُجن ترابه من كحل العيون الجميلة وحناء الطفولة البريئة. شدني الحنين مرة أخرى لأعود لديوانه “وصايا العاشق” ولأعيش مع غرابة عباراته، فطالعتني سنبلات خضراء ونهر زنابق حمراء. “السنبلات الخضر في صدري ونهرزنابق حمراء في يدك التي تهتاج في البلور / يالبراءة العصفور في جسدي / ويا لقواي حين كدمعة تنهار فوق رخامك الاعمى المعذب بالندى والطين / ياللماء حين يشفُّ بحرٌ في الظهيرة وهو يصهل في الدماء / كجذوة صخرية بيضاء تشعل رمل ظهري الآن” تدهشني الصور واللوحات التي تكثِّف المجاز، تاركا ظله وراء كل مايكتب، ان توقيعة الشاعر وبصمته واضحتان مميزتان، وكأنك حين تقرأ تعرف أن الشاعر نمر سعدي يتجول بين حدائق الشعر وثقافات الشعوب وهموم الوطن والغزل والعشق، ويعزف على نايه أجمل الالحان ويرددها مزامير لحبق أيلول، ولكل الفصول فترى الربيع يزهو وترى الخريف بعثرَ أوراقه الصفراء فتهمي دموعه على الفراق، فترى أجمل وأبهى صور الطبيعة. ويهزُّك الجمال كما هزَّتني أنفاسُ الشاعر في هذه المقطوعة الغنائية العذبة “حلَّق طائرٌ بيديَّ بعثرني / فقلت لسندبادِ الريح لملمني وخذ قلقي الذي ربَّته زرقاءُ اليمامة / منذُ كان الكونُ رهنَ فقاعة زرقاء مثل الحُب” مهما كتبت لن أغني الآخرين عن القراءة أبدا، فأمام القراءة الحقيقة وحدها تسقط الممالك وتحيا الحضارات وتتجلى كل أنواع الفنون فيتراءى لك مساءٌ سرياليٌّ ضبابي أخير. “تشم الفراشات عن بعد ألف سماء دمي / كالكلاب الشريدة أو كالبعوض / تجسُّ ارتعاشات قلبي وتدخل مجرى النفس / كنت أحلم في شرفة البحر هذا المساء الأخير / وبأشياء سرية وبحواء في جنة”.. ثم تراه أصبح دون كيشوت يحارب طواحين الهواء الوهمية والريح.
لن أكفي غيري مهما كتبت.. خصوصا عن قصائد كقصائد نمر سعدي وعن أسلوب مثل اسلوبه الفاتن، جديد وممتع. فليغص بنفسه في لجَّة الشعر الخضراء وليلمس جزالة التعبير اللغوي، والتصوير الفني الذي أبدعه خيال الشاعر الجامح، ليختزن بالرؤى والايحاءات والرموز والثقافات والأساطير.