الشاعر هنري زغيب
“أَزرار” رقم 1322 – “النهار”
الجمعة 12 تموز 2024
على موعدٍ سنويٍّ معه، نحن، كلَّ تموز.. وهو على موعد دائمٍ معها: حبيبته بطرّام.. ولا أَصِفُها بأَقلّ.. خصوصًا بعدما زُرتُه في عيادته قبل سنوات في هيوستن: دخلتُها فإِذا بي محاطٌ لا به وبــ”عبطته” المأْلوفة، بل بها: على جدران العيادة زيتياتُ مناظر من بطرّام، على مكتبه قصعة زجاجية فيها حفنة تراب من بطرّام، حدَّها نبتة صغيرة في وعاء غير صغير تنمو فيه أَغصان من شلح زيتونة في بطرّام، حديثُه نوستالجيا صامتة في عينيه ناطقة بلسانه عن شوقه الدائم إِلى بطرّام.. ولم أَخرج يومها من عيادته إِلَّا بعدما تأَكَّد لي أَنه جعل بطرّام عاصمة هيوستن..
حين أَزوره في بطرَّام يحلو له كلَّ مرة – أُكرِّر: كلَّ مرة – أَن يخاصرني إِلى شرفته الشرقية المطلَّة على سهول الكورة النضرة الخصيبة بالجمال، ويحمل عينيَّ معه إِلى البعيد قُبالتَنا، تستقرَّان مع عينيه في الهناك، في الأَعالي، عند جبل الأَرز، ويردِّد لي من عبارات جبران عن لبنان والأَرز، فيما الشمس غروبًا تجمع آخر شعاعاتها قبل أَن تذهب إِلى النوم..
أَقول بطرَّام، وطنه الصغير، لأَقول فورًا بعدها وطنه الأَكبر: لبنان، وهو حنينُه الدائم وشغلُه الدائم وهمُّه الدائم، هو الذي يردِّد شِفاهةً وكِتابةً: “أَنا أَحمل جوازَ سفرٍ أَميركيًّا لكنَّ جنسيتي لبنانية.. أَعيش مهنيًّا في أَميركا لكنني نفسيًّا أَحيا في لبنان”.. ولأَنه يحيا دومًا تلك الـ”واقعيًّا”، كلَّما عاد إِلى حضْن بطرام وسماء لبنان، يحمل معه باقةَ حب في شكل كتاب.. وهو ما يحصل في زيارته الحالية (هذا الأُسبوع وإِلى آخر هذا الشهر): كتابُه الجديد “فيليب سالم-الموقف والرؤْيا”، غمْرًا جديدًا عن بيدره اللبناني مليئًا بسنابل من قمحه الوفير، بادر الزميلُ الوفيُّ أَسعد الخوري إِلى جمْعه بتُؤَدة وعناية وإِخراجه في هذا السِفْر الجديد من 280 صفحةً قطعًا موسوعيًّا كبيرًا في طباعة أَنيقة تليق بالمضمون الأَنيق: مجموعة مقالاته (معظمها في “النهار”) وندواته ومشاركاته ومحاضراته ومنبرياته ودراساته وأَبحاثه و”أُسترالياته”، ومحورها الدائم الأَوحد: لبنان بأَعلامه ومعالِمه وأَعلامه، يعالجه، مفكرًا، كما يعالج، طبيبًا، مرضاه المصابين السرطان..
بلى: هذا رجلٌ مسكونٌ بلبنان، تمامًا كما سُكْنى صديقَيه الأَقربَين عاصي ومنصور الرحباني، ونموذجُه الدائم جبران الذي غادر لبنان يومًا لكنَّ لبنان لم يغادره ولا أَيَّ يوم..
مسكون؟ نعم.. وجدًّا.. وكثيرًا.. ويوميًّا.. ولأَجله يكتب ويناضل ويحاضر ويناقش ويتداخل لدى مراجعَ أَميركية يكشف لها عظمة لبنان اللبناني، لا جغرافيًا ولا ديموغرافيًّا بل حضاريًّا في رسالته الإنسانية، ومن هنا ضرورتُه في هذا الشرق وجوهريةُ الحفاظ عليه.. ولذا، كلَّما عاد إلى لبنان، تتقاطر إِليه الدعوات تستضيفه محاضرًا أَو مناقشًا أَو محدِّثًا أَو مكَرَّمًا ليبسط بعدُ وبعدُ ما في قلبه من وعيٍّ جذوريٍّ حقيقةَ لبنان وجوهرَه وتراثَه الخالد..
في محاضرته عن جبران (الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU – “مركز التراث اللبناني” – مؤْتمر مئوية كتاب “النبي” – تموز الماضي 2023) قال: “هذا الراقدُ في ضريحه، هو من لبنان لكنَّ رسالته كانت ولا تزال للعالم كلِّه.. كتابُه “النبي” ليس كتابًا عن الماضي بل عن المستقبل.. ورسالتُه من رسالة لبنان التي تحدِّد هُويتَه وحضارتَه، والتي لم تكن يومًا إِلَّا رسالة عالَمية”..
عالَمية؟ بلى.. من هنا بلاغةُ فيليب سالم في اختصارِ حبِّه وطَنَه بعنوان كتاب له سابق: “من جلجلة السرطان إِلى قيامة لبنان”. وبهذا الإِيمان منه ومن أَنداده المؤْمنين بعظمة لبنان اللبناني، لا نخاف على وطننا، ونؤْمن عميقًا بأَنَّ قيامتَه آتيةٌ، آتيةٌ، آتية.
هـنـري زغـيـب