عزت عمر
خلال اشتغالي على تحقيق كتاب دعوة الأطباء” للطبيب والفيلسوف البغدادي الشهير ابن بطلان (324 – 447 ه/916 – 1055م) لفت انتباهي أن حركة الشخصيات المصاحبة للمخطوط تعبّر عن الموضوع المطروح لكن وجوه هذه الشخصيات تحمل سمات مغولية وربّما صينية، بينما الثياب والعمامات عربية، وحينها لم يكن ثمة جوجل أستعين به، ولكن التساؤل ظلّ كامناً في البال إلى أن قرأت بحثاً عن منمنمات الواسطي في مقامات الحريري باعتبارها فناً عربياً بحتاً تفاعل مع النصّ السرديّ وعبر عن رؤية الفنان والكاتب في إنتاج كتاب ذي سمات جمالية مميزة، لكن ربّما جاء هذا التفاعل متأخّراً لعدم إيلاء الثقافة العربية المنشغلة بالمتنبي والبحتري وأبي تمام وسواهم بأي اهتمام نقدي وصل المتلقّي في مخطوط بعينه، لكنّ الأمر بالنسبة لي كان يتطلّب بحثاً وتنقيباً في مخطوطات ليست متوفّرة كما في ذلك الوقت من اشتغالي في معهد التراث العلمي العربي بجامعة حلب، فقد بعدت المسافة عن تلك الأجواء العلمية التراثية الرصينة برفقة باحثين عرب وأجانب، بل إنّ توجّهاتي الكتابية والنقدية ابتعدت بذات المسافة
وما قصدته بالتفاعل المتأخّر ما بين اجتراحات الواسطي
والحريري، ذلك أن المغول بعد هذا الإنجاز بقليل (نحو 20 سنة) اجتاحوا بعداد وأخذوا صناعة نقش وتزويق المخطوطات معهم، لتغدو وجوه شخصيات المنمنمة تتغلّب عليها السمات المغولية، بل إنها باتت نهجاً تتناقله النسّاخ العرب في تزويق ورسم المنمنمات ومنهم محمد بن قيصر السكندري، الذي صور مخطوط «دعوة الأطباء» عام 1273م، وهو محفوظ بمكتبة أمبروزيانا/ ميلانو، وتوجد منه نسخة مصوّرة على ميكروفيلم في مكتبة معهد التراث بجامعة حلب، وه ذا يعني أن فن رسم المنمنمات انتشر في المنطقة الإسلامية انتشاراً كبيراً ولاسيما الرسوم والمنمنمات الفارسية التي رافقت تأسيس الدولة العثمانية وغدت حضارة مشعّة في مجالات البناء والزخارف التي تحمل آثارها اليوم المتاحف والقصور والمساجد والحدائق والطرق وسواها، ومن ضمنها فن زخرفة الكتب ورسم المنمنمات الذي ازدهر برعاية السلاطين وهو، ما ألهم أورهان باموق لكتابة روايته الشهيرة “اسمي أحمر” إذ تقول بعض المصادر أن كتابته لها استغرقت عشر سنوات، أمضى ستّ سنوات منها في دراسة فنون الزخرفة والرسم على ورق المخطوطات والمصاحف، ثمّ كتب الرواية خلال 4 سنوات كثّف اشتغاله فيها على مسألة الهوية والخوف من ضياع الفن فضلاً عن أنه أعاد قراءة التاريخ القريب لبلاده وفق رؤية فكرية وإنسانية معاصرة عاينت موقع الفن والنقش التركي العثماني وهو يراوح في المنطقة الفاصلة ما بين فنون الزخرفة والنقش الفارسية و فن الرسم الأوربي مع انطلاقة عصر النهضة
ولعلّ هذا الجهد البحثي والإبداعي الكبير ساعد باموق على لفوز بجائزة نوبل في (2006)، وهو ما سأتناوله بقراءة معمّقة لرواية “اسمي أحمر” وتقنياتها الموظّفة.. قريباً