افتتاحية العدد بقلم رئيسة التحرير إخلاص فرنسيس
حقول من الضوء تسطع تحت زرقة الرغبة التي تمّ تجاهلها سنين طويلة، أكتب وحدي معلّقة بين جبلين يزحف الواحد نحو الآخر في انزلاقات تعلو كلما اقتربت من الصخور المسنّنة، أراني في الهزيع الأخير من الأمل، أنتقل من مرحلة لمرحلة من حياتي، على النافذة الحديدية الباردة أستنطق الشجر الهارب في مستنقع الضوء، لا شيء يطرد السوداوية مثل الغابات الخضراء، وحفيف الضوء على الوجوه، والعيون شاخصة نحو المدينة المرتقبة. أرى من زاوية أخرى الهروب في كلّ عين، الهروب من شيء ما، الكلّ يهرب إلى الحلم، ليختبئوا من مصادفات الحياة، وأنا أهرب منّي إليّ، أجرجر قلمي على الورقة البيضاء، قلم الرصاص الذي احتفظت به منذ الوطن، أسحبه عندما أجدني مستنفدة من كلّ فكرة، أدنو إليه وكانّه نبيّ سوف يصنع أعجوبة لأناملي المرهقة من لفّ المعجنات، المشتاقة إلى مَن يدلك مفاصلها. أعلم أنّي أبالغ، فما لهذه الفلسفات التي أدسّها في مقال افتتاحية العدد الثاني عشر من المجلة، حيث تتصدّر الصفحات النوتات الموسيقية والأبوية، والأرق الذي فضّ بكارة العالم، كينونتنا، ليصبّ في العيون الوجع المتنامي مع عجلة الحياة السريعة. أحاول إعادة النظر، أحاول بجرأة أخجل كلما تذكرتها، وقد تركت وحدتي على حال من الاضطراب الآلي، سرعان ما أطاعني قلم الرصاص وكأنّي أثرت حنقه، وراح يؤنّب كلماتي، ليس كلامك بكلام، دمدم بضجر، انتظر، قلت له ليس الغلط في مزاجي وكلماتي، بل بتركيبة أبجدية البشر من حولي. كان المطر بدأ يبلّل النافذة الزجاجية أمامي، ويزيح الضوء رويداً رويدا قابضاً على الطبيعة بسحابة خفيفة من الرطوبة اللزجة، والأرض فاغرة فاها تشرب حدّ الثمالة. أحسست برعشة تسري في جسدي، الجوّ الماطر المتمهل يطرق الزجاج، والقطار يمضي قدماً، والشجر يتراكض إلى الوراء أصغي للصمت الأقوى، يغرق كلّ ما حولي في حالة النشوة، تراقص القلم بين أصابعي، وقرّر بينه وبين نفسه أن يجترح الأبجدية من جديد، يجعل الكتابة أكثر صعوبة.
أريد أن أكتب، أن أفكّر بفاتحة العدد، شعرت بشفقة القلم عليّ، حركة لا شعورية أطلقت ما يعتمل في نفسي، حتى من دون أن أعبأ بكلّ ما ومن حولي، كلمات مؤثّرة يرقّ لها الفؤاد، يحتاج الإنسان إلى هذا المطر لينقذ ذاته من بلبلة الفكر.ما في قلمي من مشاعر سحق الموات والفوضى سحقاً، كنت في حاجة إلى ثورة القلم، ودمعة المطر، وصوت القطار، والشجر الهارب، والإقامة ما بين فكّي الطبيعة، أطعم القطط، وأصغي إلى حديث الطيور، وخيلاء النهر.كلّ الأشياء التي أتمنّاها لا تأتي، السلام هو الجزء المفقود من القلب، أن نقرأ الكتب، أو حين نسارع إلى الاختفاء عن عيون الرقباء، عاديون لا شيء فينا محض وجود.قال أحبّ السفر، وانسحاب القطار في الثواني الأولى من المحطّة، كأنّه يمثّل حياة كلّ منّا، تبدأ البداية عند الولادة، نخرج من الرحم إلى ضجيج الفراغ الأوسع، منّا من يغرق في بياض ليلها، ومنّا من يغرق في زيفها، ومنّا من يُخيّل إليه أنّه المخلص. تتعفّن الأحلام اليابسة على مدار الدورة الدموية ينتظر على المحطّة التالية، يتوقّف القطار، يركض وفي عينيه ترقص دمعة حافية يلوح بمنديل ممزّق.
أريد أن أكتب، أن أفكّر بفاتحة العدد، شعرت بشفقة القلم عليّ، حركة لا شعورية أطلقت ما يعتمل في نفسي، حتى من دون أن أعبأ بكلّ ما ومن حولي، كلمات مؤثّرة يرقّ لها الفؤاد، يحتاج الإنسان إلى هذا المطر لينقذ ذاته من بلبلة الفكر.
ما في قلمي من مشاعر سحق الموات والفوضى سحقاً، كنت في حاجة إلى ثورة القلم، ودمعة المطر، وصوت القطار، والشجر الهارب، والإقامة ما بين فكّي الطبيعة، أطعم القطط، وأصغي إلى حديث الطيور، وخيلاء النهر.
كلّ الأشياء التي أتمنّاها لا تأتي، السلام هو الجزء المفقود من القلب، أن نقرأ الكتب، أو حين نسارع إلى الاختفاء عن عيون الرقباء، عاديون لا شيء فينا محض وجود.
قال أحبّ السفر، وانسحاب القطار في الثواني الأولى من المحطّة، كأنّه يمثّل حياة كلّ منّا، تبدأ البداية عند الولادة، نخرج من الرحم إلى ضجيج الفراغ الأوسع، منّا من يغرق في بياض ليلها، ومنّا من يغرق في زيفها، ومنّا من يُخيّل إليه أنّه المخلص. تتعفّن الأحلام اليابسة على مدار الدورة الدموية ينتظر على المحطّة التالية، يتوقّف القطار، يركض وفي عينيه ترقص دمعة حافية يلوح بمنديل ممزّق.
نقش حلمه الطافح بمعجزات الكون وأمانيه
يتمرّس بالهواء الرطب
فاتحاً كفّه للريح ليقرأ المرات التي لم تتعانق فيها الأصابع
يده التي امتدّت عادت ملطّخة بالفراغ
في لحظة يعاود القطار الانسحاب
ممتلئ بكتل بشرية
وجهه جرح، وصدره تتعالى فيه الصرخات
تنسحب السكك الحديدية، يرتدى الليل الضجر
أصبح الصوت أبعد
والعمر أبعد
سقط في حضن الصمت مرة أخرى
تحبّين الرقص كثيراً
حبيبتي الشهية كما القصائد المحفورة بالنار في صدري
أشمّ رائحة الرحم مرة أخرى
على منبت الحياة أنام
تقدّمين لي السلام المفقود
ما قبل المحطّة الأخيرة ينام، يبكي رجل عبيط
لا يتقن الرقص
ولا يتقن الكذب
ولا يتقن الأرق
مرهق من عصر الانسحاب
خارج إليّ منّي
حلم بقطار ينقلنا إلى أحلامنا المعطوبة
قبيل الرحيل
وفي عناق مقصود
بعد أيام تبادلنا حبّ المساء، وبرودة الماء
وتقاسمنا أرق المسافة والسرير حدّ التعب
قرأ لي حكمة اليونان وشتى الفنون
كلما جرّدنا الزمن
انتظر، ارتعش، راقب انسحاب المعدن وصفير السكك
يداه بحجم خاصرتي
أقول له حدّثني عن البحر والصحراء والغيم
عن ضجيج الرسائل
وعن الكلمات المعذّبة على شفتيك
انسحاب أخير، يتحرّك ببطء القطار
تسافر الأشجار، تنسل زهور الغابات
البشر والشجر والعمر
مدّي يدك إلى صدري ليهدأ قلبي
هادئ مساؤك
سرقني القطار منك
عجلات القطار تطحن الوقت
العشاق.. عمّ يتحدّث العشاق
ثمة محطّة تخفى في جدرانها وجوه المحبّين، وبكاء الراحلين، وأمل المهاجرين،
وخيبة الآملين بالعودة، وحدها المحطّات تمتصّ أصابع الانتظار.
ترفّق ببرودة الأسرّة الباردة.وحدها نوافذ القطارات تصغي لبكاء القرنفل،
وحدها المحطّات تسقط فيها الأقنعة مسكونة بالفوضى.
آنَ لي أنْ أكفَّ عنّي، لم يعدْ ظلامي يطيقُ ظلامي.
آنَ أنْ أشربَ نهرًا من الضوءِ.