اخلاص فرنسيس
بمناسبة عيد ميلاد السيدة فيروز أتقدم بأصدق الأماني وأطيبها لسفيرتنا إلى النجوم،فيروز فعل الإيمان والغبطة
أن يرتقي إنسان فوق الأديان والمذاهب، والأجناس والأعراق، وأن يكون القاسم المشترك الذي في نبضه يجمع الشرق والغرب، وحول دفء صوتها يلتف كلّ عشاق الموسيقا والحياة، من كل لون ودين ومذهب ، اسمٌ واحد مضيء كما قمر في القلب، اسم تُحنى له الجباه، وتصفّق له القلوب إجلالا ورهبة
فيروز التي بصوتها رتقت أواصر الناس، وضمدت جرح الإنسان، وجمعت ما كسرته وشرذمته الحرب، قيل عن فيروز، عندما كانت تعبر الحواجز في ذروة الحرب والذبح على الهوية بين بيروتين كانت تُؤدّى لها التحيّة، وتُفتح لها الحواجز، وتُسدّ أفواه البنادق وأزيز الرصاص
فيروز لبنان، فيروز الوطن، فيروز الأرز، فيروز الإنسان
هي ليست السفيرة للنجوم فقط بل سفيرة الإنسانية
ماذا أكتب عنها؟ هل تكفي الأبجدية؟ وهل حروفي تليق بها؟ لا أدري، أقف حائرة، أحاول أن أجمع شتات أفكاري، أراني أسمع وترها الشجي الذي يفجر المشاعر في داخلي، ليخطف أنفاسي إلى عوالم أخرى، أراني أولد من غيمة صوتها
فيروز هي السفيرة إلى النجوم والقلوب، تلك الإنسان التي دخلت القلوب، أجّجت رماد الزمن، وجمعت ما بين الأجيال في داخلي طفلةً ويافعةً وكهلةً، فتراني معها أخرج من هذا العالم الدونيّ المحسوس إلى عوالمَ أسمى وأرقى وأنقى، إلى عوالم سماويّة وملائكيّة، امتزج فيها الحب مع الدمع، الأمل مع الألم، العشق مع روح الطفولة العفوية مع الشموخ
فيروز تدخلني في عمق مغارة جعيتا، لأصغي إلى أصوات الأولين، يتردد صداه مع أنفاس هذا العمق الفسيح، يأخذني تارة أخرى إلى جبل الأرز، فأنحني أقبل التراب، وأغوص ممتدة مع جذورها إلى الأعماق، لأعرف ماهيتها، ومن أين أتت بهذا الاخضرار والحياة والصمود في وجه عوامل الطبيعة على مدار الزمن، وأقف على أسرار البخور المتصاعد من بين حفيف أوتار الشجن في صفاء ذلك الصوت، فتبتهج روحي، و اغمض العين لأراني أقف في هياكل بعلبك، وقلاع عنجر، أسمع صهيل الأعمدة الرخامية التي وقفت فيروز على مسارحها تنشد أناشيد الحرية، وتشهد على مسيرة أبطال من بلدي
وفي برهة أعود لأسكر برائحة البحر وزرقة السماء وألوان الأرجوان على شطوط صور وصيداء، أقطف المرجان وأصطاد اللؤلؤ من محار صوتها
فيروز تعود بي إلى ذلك الوادي البعيد، إلى روح طفولتي، أركض مع شادي، أطارد طير الوروار، وأجلس على شرفات المساء، أشعل قنديل الذكريات، وأنا على سطح منزلي، تحملني نغمة صوتها فراشة إلى أول حبّ عرفته، حيث كانت فيروز أول رسالة غرام محكيّة كتبتها، أرسلتها عبر الفضاء الرحب لتصل إلى الحبيب، إلى أبي وأخي اللذين راحا مع الزمن
الكتابة عن فيروز يعني أن أعود للتسلّل من شباك المنزل، وأهرب إلى الغابة المجاورة، إلى شجرة الصنوبر، أفترش أغصانها، وأرقب القمر والنجوم، أدرس علم الفلك والفضاء، لأعرف ذلك الوطن الفيروزي
أيها الوطن الممتد ما بين غابري وحاضري، وتليدي وطارفي، وناي جبران، وسر الوجود
أيها الوطن الذي تشرف بأن تكون فيروز ” رسولته بشعرها الطويل حتى الينابيع” أيها الوطن البعيد القريب، القديم الجديد، أيها الوطن الذي يحمل أنفاس جبران وروح نعيمة، أيها الوطن الذي عرفتك، حملتك معي إلى غربتي، من خلال ترنيمة ميلادية. أيها الصوت الملائكيّ الذي هدهد سريري لأنام، وكان أول طقوس الصباح، حيث جدل الفجر نهاري من خصلات شعرها، ووردة مزروعة في كتبي
فيروز يا رائحة الحبق في حديقة أمّي تتسرب إليّ في نبوّة صوتها، أرشفه مع فنجان قهوتي وغربتي، وأنا أجلس في صباحتي الخالية إلا منها
فيروز فعل الإيمان وغبطة الروح، صوت الحضارة الممتدة إلى ألفي عام، الأغنية التي لا تكبر، الصلاة التي لا تنتهي
فيروز وحدها العوض في زمن الشح والحقد في مجتمع يفتقد للمحبّة والإنسان
فيروز الكبرياء والتحدّي
فيروز.. “إذا المحبة أومأت إليكم فاتبعوها
نص جميل يليق بهذه السيدة العظيمة روح لبنان وقلبها الوردي. أسميت إبنتي البكر (ريما
وكانت ترنيمتها (ياللا تنام ريما) تسكن روحي. وأسميت روايتي وكتابي البكر (كُنّا وكانوا) وكانت
أغنيتها (جايبلي سلام )من دلّني على هذا العنوان
لفيروز المحبة سنوات مديدة وسعيدة وشكراً من القلب لكل هذه الحياة الحلوة التي عشناها وهي فيها تؤنس وتُطرب وتحب ولا تعرف غير الحب ..