طبيعيٌّ أَن يشاركَ لبنانُ محليًّا فرنسَا في عيدها الوطني هذا الأُسبوع (14 تموز- قصر الصنوبر).. فلبنان وفيٌّ لأَصدقائه في العالم وإِنْ ليسوا جميعًا على مستوى وفائه.. لكنَّ اللافت في ذاك اليوم الخاص كان أَن تحتفل فرنسا بعيدها الوطني على أَرضها (بلدية باريس) ويكونَ لبنانُ لؤْلؤَةً على تاجها، تُرصِّعُه لؤْلؤَتُنا الخالدة فيروز، ويَسطعُ فيه نصُّ جبران الخالد..
أَمام حُضُور كثيف ومرأَى ملايين المشاهدين أَمام شاشاتهم، وقَفَ الإِعلامي الفرنسي ستيفان بيرن (مقدِّم البرنامج الشهير “أَسرار التاريخ” على القناة الفرنسية الثالثة) يُعلن حرفيًّا: “فَلْنُصْغِ الآن إِلى أُغنيةٍ من ريبرتوار المغنية اللبنانية الشهيرة فيروز، أَهَمّ ديفا للموسيقى العربية المعاصرة: “أَعطِني الناي وغَنِّ” من شعر جبران خليل جبران وتلحين نجيب حنكش، وهي تفوح بعذوبةٍ عاليةٍ، تؤَدِّيها السوبرانو المصرية فاطمة سَعيد، وتَدعونا بها إِلى التأَمُّل الروحاني بمرافقة الناي الحنون وعزْف الأُوركسترا الوطنية الفرنسية”..
وبإِحساس سوبراني شفَّافٍ أَنشدَتْها فاطمة سَعيد (م.1991 في القاهرة وتعيش بين لندن وأَميركا).. وكانت سابقًا غنَّتْها في مهرجان Opus Klassik (برلين-10 تشرين الأَول 2021) بتوزيع الأَلماني تيم آلْـهُوفْ، مع ناي رغيد وليَم، وقيادة الأُوركسترا كورنيليوس مايستر.. وقبلذاك كانت أَصدرَتْها (4 دقائق و25 ثانية) ضمن أُغنيات أُسطوانتها الأُولى “النور” (إِنتاج”شركة وونر”-أَيلول 2021)..
هكذا إِذًا: كانت فيروز ذاكرتَنا تلك الليلةَ الوطنيةَ في “كونشرتو باريس”، كأَنما استعادةً تلك الزيارةَ التي استهلَّ بها الرئيس الفرنسي ماكرون جولتَه في لبنان بادئًا بالانحناء الإِعجابي أَمام فيروزتنا (الإِثنين 31 آب 2020) مقلِّدًا إِياها وسامَ الشرف مصرِّحًا (لاحقًا): “شعرتُ بالرهبة وأَنا أَقف أَمام الديفا فيروز”.. وغداتَها واصل لقاءَاته مع سياسيين انحنوا أَمامه تَزَلُّفًا وكان يدرك أَنْ ليس فيهم من يَفي بما يتعهَّد له..
وكانت فيروزتُنا الخالدة، قبل 45 سنة (أَيار 1979)، استقطبَت باريس وزوَّارَها ليلةَ صدَحت على مسرح الأُولمبيا برائعة عاصي ومنصور (مع أُوركسترا بقيادة عاصي): “باريس يا زهرةْ الحريِّه”، وفيها قَسَمٌ للبنان لا يزول: “يا فْرَنسا، شو بْقلُّن لأَهلِك عن وَطَني الجريح، عن وَطَني اللي مْتوَّجْ بالخطر وبالريح؟ قصّتْنا من أَوّل الزمانْ: بْيتجَرَّح لبنانْ، بْيتهَدَّم لبنانْ، بيقولوا مات وما بيموت، وبيرجع من حجارو يْعَلِّي بيوت… وتتزيَّن صُور وصَيدا وبيروت”..
إِنها الحقيقةُ المتواصلة: لبنانُ الوطنُ الخالدُ يَسطع في العالم بمبدعيه، ولبنانُ الدولةُ الفاشلةُ يستقطب شفقة العالم وازدراءَه بسبب سُلطة متقاسمة متشاطرة متناحرة أَعجز من أَن تَحْكُم لوحدها من دون الخارج بوُسطائه ولِـجانه وموفَديه..
وهذه هي حقيقة لبنان في جميع العُقُود والعُهُود: يَكبُرُ في العالم بمبدعيه ويَصغُرُ بين الدُوَل بسياسييه. وفيما فرنسا يومَ عيدها الوطني استحضرَت أُغنيةً من فيروز، وكانت علَّقَت على جدار المبنى 14 من جادة مين Maine رخامةً تذكاريةً عند مدخله لأَن جبران سكَن شقَّة منه أَيامَ كان يدرس الرسم في باريس (1908-1919)، لن تجد فرنسا أَيًّا من “بيت بو سياسة” في لبنان يستاهل ذكرَه، لأَن فرنسا التي كرَّمَت عظماءَها في البانتيون تعرف أَنَّ الوطن يبنيه الخالدون وأَنَّ الدولة، إِجمالًا، يَحكُمُها سياسيون عابرون إِلى النسيان.
وليس في لبنان، عمومًا، إِلَّا سياسيون عابرون.
“النهار”
الجمعة 19 تموز 2024