في رحاب نص شعري ..
القصيدة التي بين أيدينا هي قصيدة للشاعر جميل داري ، الشاعر السوري الكردي المعروف بشاعريته العميقة ، ولغته المتمرّدة على الصور البيانية التقليدية ، وعند دراسة نص او تحليله نربطه بصاحب النص وخلفيته الثقافية والمعرفية ، لأن هذا الربط يضيف بعدًا نقديًا مهمًّا للتحليل ، وانَّ الانتماء الثقافي والزماني ، وكذلك المكاني ، يؤثر مباشرة في رؤيته الوجودية والوطنية داخل النص.
جميل داري ، شاعر كردي سوري من مواليد القامشلي شمال سوريا ، وهو شاعر يحمل إنسانيته قبل قوميته ، ويكتب بلغة عربية صافية مشبعة بالرمزية والمعاني العميقة ، حيث تتقاطع في نصوصه الشعرية ؛ الذات ، والحرية ، والخذلان ، والهوية الوطنية ، فوُصف بانَّه شاعر الذات الممزَّقة والوطن الجريح ، وبهذا يطلّ علينا الشاعر جميل داري بواحدة من قصائده العميقة ، وفيها الكثير من الكثافةً الرمزيةً ، قصيدةٍ تتخطى ظاهر الألفاظ ، وتغوص بمعاني وجدانية داخل الذات والوجود ، وليس بعيدا عن الوطن ، تبدأ القصيدة بحس وجودي عالي ، تكاد تكون إعلانًا عن اغتراب الشاعر في زمنٍ بلا ملامح واضحة ، يبدأ الشاعر بـ :
سافرتُ من نفسي إلى نفسي ووصلتُ حتى آخِرِ الحَدسِ
أمشي على رجليَّ ، أبصرُني وكأنّني أمشي على رأسي
لا ضوءَ في هذا الظلامِ ولا أملٌ يصدُّ جحافلَ اليأسِ
بدون مقدمات ، يدخل الشاعر منطقة التيه الداخلي ، حيث يقيس المسافات بين الذات ومرآتها بمقياس الحيرة والشتات ، السفر هنا ليس انتقالًا في المكان ، بل انتقالاً في عالم الوعي ، الشاعر يعيش رحلة بالعمق الإنساني الوجداني ، بحثًا عن هويةٍ ضائعة بين وجوده الحقيقي وصورة متكسّرة في مرآة الواقع ، وانعدام الضوء والأمل يوصل الشاعر إلى اليأس .
حين يقول جميل داري : « سافرتُ من نفسي إلى نفسي »
فهو يتحدث ” عن تيه وجودي أو تشتت ، يعكس معاناة المثقف السوري والعربي في عالمٍ لا يتوقف عن الإضطراب ، لا معنىً فيه لهوية الإنسان أو انتمائه .
هل أجملُ الأيامِ آتيةٌ أم إنَّها عفِنتْ مع الأمسِ ؟
لا ، لا تلمْ قلمي، فليسَ له صونُ الدجى من لعنةِ الشمسِ
إنَّ التغنِّي بالضلالِ غدا أضحوكةً في المعبدِ القدسي
الشاعر لا يتحدث عن تلك المفارقة لحسّية ، إنما يهمه ويزعجه انقلاب المعايير في عالم الحداثة ، حيث يُصبح المرء منقلباً على نفسه ، يرى الأشياء بغير ميزانها ، لأنّ المجتمع نفسه فقد واقعيته ، بهذا السياق ، تتحوّل الفكرة الشعرية إلى تجسيدٍ لصورة الفوضى الوجدانية والفكرية التي يعيشها الإنسان العربي المعاصر ، الذي ما عاد يعرف إن كان يسير نحو النجاة او نحو الهاوية . نحن أمام حالة من الانكسار الإنساني ، حيث تتلاشى إمكانية التغيير ، ويصبح الأمل مجرّد خيطٍ ضعيف ، لذلك تتكاثف اللغة عند الشاعر ، ويصبح الإيقاع أكثر رصانة ، الشاعر يقرع بذلك حسّاً داخليًّا في قداسة معبدٍ متهالك ، معلنًا بشكل رمزي نهاية الإيمان بالمثل والقيم .
لا خيرَ في وطنٍ تحجُّ لهُ شتّى صنوفِ القهرِ والبؤسِ
يُغتالُ فيهِ العقلُ محتقرًا من أجلِ أنْ يتأبَّدَ الكرسي
وطنٌ بلا وجهٍ ولا جهةٍ من ألفِ عامٍ ذكرُه منسي
الوطن عند « جميل داري » جرحٍ مفتوح ، فهو لا يكتفي بتصوير أزمة الذات في نفسه ، بل يرجع ذلك إلى الأصلها الاجتماعي والسياسي ، فيقول : «لا خيرَ في وطنٍ تحجُّ لهُ
شتّى صنوفِ القهرِ والبؤسِ … » ، وهنا يتحوّل الوطن من حضنٍ إلى سجنٍ رمزيٍّ ، ومن مكان ذي قيمةٍ إلى لعنة حياة ،
اللغة في الحديث عن الوطن تكون طابعًا إحتجاجيًا ، كأن الشاعر يخطب في مكان طاغ بالاستبداد ، إنّه رفضٌ لمنظومة الفساد السياسي والأخلاقي التي حولت الوطن إلى معبدٍ تقدس فيه الأصنام الحديثة ؛ السلطة، المال، والخوف .
وهكذا يتجلّى مكنون الشعر الاحتجاجي بصورته الحديثة ؛ فيه تختلط حدود الصراع الذاتي بالصراع الجمعي ، بحيث يصبح وجع الشاعر نفسه صورةً مكثّفةً لوجع الإنسان العربي الذي فقد صوته وكرامته في وطنٍ يقدّس الكرسي أكثر مما يقدّس الحياة .
خمسونَ والأحلامُ فارغةٌ صارتْ تُباعُ بسعرِها البخسِ
خمسونَ والدنيا مصارعةٌ بينَ النّهى وأئمّةِ الرفسِ
الخمسون ؛ خمسون عامًا ، زمن وجع ممتدّ وأحلام فارغة ، إنها مرثية لزمنٍ طويلٍ من الصراع والانتظار ، الـ “خمسون” لا يُقصد به عددّ زمني فقط ، بل له دلالتة الرمزية على اكتمال مرور دورة جيلٍ كاملٍ دون تغيير أو تطور ، الأحلام التي تعتبر وقود الحياة ، تحوّلت إلى سلعة تباع بثمن بخس ، والكرامة إلى بذخ في أسواق الحياة البائسة. البيت الأخير ينهي القصيدة بمشهد درامي ساخر ، يجمع بين نقيضين : العقل في مواجهة الغريزة ، النّهى في مواجهة « أئمة الرفس » ، في تصويرٍ لواقعٍ انقلبت فيه الموازين وسقطت القيم . لغة جميل داري في هذه القصيدة مزيج من الفلسفة والتراجيديا ، فهو لا يعتمد زخرف القول اللفظي ، إنما يحاول اظهار التوتر الداخلي بين الكلمة ومعناها ، موسيقى الشعر في قصيدته هادئة ، لكنها مشحون بطاقة سخط خفيّ ، والقصيدة تتأجج من داخلها إلى فضاءات مختلفة ، من الذات إلى الوطن والمجتمع ، ومن التأمل إلى الانفجار والرفض ، وترقد بين الهشاشة والسقوط . هذا النصّ يقوم على جدلية النور والظلام ، والعقل واليأس ، والحلم والانكسار ، كل صورة تحمل في داخلها نقيضها ، تعبّر عن شتات الإنسان الحديث الذي يعيش في عالمٍ بلا إنسانية ، ممتلئ بالشكوك . قصيدة الشاعر جميل داري ليست صوت عابر ، هي بيان ادبي في جناس شعريّ مدوي في الوعي العربي المعاصر ، إنها اعترافٌ بعمق الجرح ، وصرخة احتجاجٌ على زمنٍ يفتقر إلى الانسانية ، حين يقول جميل داري : « سافرتُ من نفسي إلى نفسي » ، فهو يضعنا أمام مرآةٍ لا تعكس الملامح الصورة المادية ، بل تكشف الفراغ تخلفه في النفس ، إنها قصيدة الغربة الكبرى ، حيث انعدام الحدود بين المنفى والوطن ، ولا مسافة بين الذات والجراح .

( عماد عواودة ، ابو حازم
الثلاثاء ٠٤ نوفمبر ٢٠٢٥ ، قميم / الأردن )