بناء على ذلك، يمكن الحديث عن شخصية رجل الدين “مشهور” الملقب بـ “الوحش” في رواية الكاتب المصري محمد بركة الصادرة حديثا عن دار “أقلام عربية” في القاهرة، تحت عنوان “عرش على الماء”. فقد بنى شخصية غير نمطية لرجل الدين، على الرغم من أن صفات رجال من هذا النوع وسلوكياتهم مكشوفة في الواقع للناس، ولم تعد خافية على كثيرين، إنما أن تجتمع كلّ أنماط السلوك في شخصية واحدة، وببراعة في البناء، لتقدّمها شاهدة على العصر، ومشاركة في صناعته أيضا، فهو أمر يحسب للمؤلف الذي ينجح خاصة في توظيفها ممثّلة لتيار ديني نما وكبر واستطاع أن يغيّر وجه المجتمع المصري خلال العقود الماضية، فغاب الدين الشعبي الذي كان روحانيّا أكثر منه متحكّما في مفاصل الحياة، ولاعبا دورا سياسيّا مهمّا في المنطقة، عدا كشف الخلافات داخل مؤسسة الأزهر، وجرّها إلى ميدان السياسة، فعندما استدعاه الرئيس “المؤمن” الذي “استطاع أن يلاعب اليهود على الشناكل”،وبوّأه أعلى المناصب ما جعله يعرف معنى السلطة، كلّفه بالمهمة المطلوبة: “يجب أن تسترد تلك المؤسسة التي تمثل نحو مليار مسلم سنّي في العالم هيبتها وتنفض عنها غبار التهميش الذي لحقها في العهد الناصري وتصبح شوكة في خاصرة السوفييت”.
خان الشيخ “الوحش” قداسة رجل الدين واستغل موقعه متبوّئا قمة الهرم في المناصب الدينية الرسمية والشعبية، من أجل مصالحه وإرضاء لنزواته، وأدّى دورا سياسيا مريبا مدعوما من الخارج حينا، ومن مؤسسة الرئاسة حينا آخر، بينما يجني الأموال حتى صار صاحب ثروة كبيرة.
تبدو الرواية لقارئ أو قارئة من الجيل الشاب، ممتعة، فيها معلومات سرّدها المؤلف بسلاسة، وفيها أماكن باهرة في وصفها، وحقب من التاريخ الحديث لمصر بهويته الاجتماعية والثقافية والدينية، تطلعه على ما لا يعرفه من هذا التاريخ، منذ العهد الملكي إلى حقبة الرئيس الراحل حسني مبارك، أما لمن عاصرها أو قرأ عنها، فسوف يجد “تأريخا” لنشوء الإسلام السياسي مدعوما من الاستعمار البريطاني بداية متمثّلا بشخصية “الأشقر الغامض” ثم من الولايات المتحدة الأميركية متمثلا بالـ “الأشقر الجديد”، وتطورها لاحقا مرورا بعهد جمال عبد الناصر الذي “تحالف مع السوفييت ليضمن القوة العسكرية”، ثم “الرئيس المؤمن” الذي تحالف مع الأميركيين ليضمن الرخاء الاقتصادي، أمّا الأخير ضمن إطار الرواية فيصفه بـ “الرجل الباهت” الذي “سوف يتحالف مع عفاريت المناطق الخربة، ليضمن التصاقه بالكرسي أطول فترة ممكنة”، من دون أن يسمّي واحدا منهم غير عبد الناصر، لكنّه يشير إلى مواقف الجماعة، متمثلة بالشيخ مشهور من كل القضايا الوطنية والاجتماعية والثقافية والدينية.
ينجح الكاتب في توظيف شخصيته ممثّلة لتيار ديني نما وكبر واستطاع أن يغيّر وجه المجتمع المصري خلال العقود الماضية
يقوم السرد على صوت واحد، على لسان المتكلّم “الوحش”، منذ طفولته في قرية مهملة فقيرة في الصعيد تدعى “رملة العربان”، هذا ما يمنح المؤلف مساحة يمكن أن يلعب فيها بأريحية في بناء الشخصية، من دون تكبّد مهمة “الراوي العليم” الذي يوقع المؤلف بمطبات أحيانا، أو ينزلق من خلاله إلى “المبالغة في علمه بدواخل الشخصيات وخفايا الأمور”، خاصة أن السرد ينهض على التداعي، أو البوح الذاتي والاسترجاع، فهذا الشيخ فتنه الشعر، وأعجب بالطرق الصوفية، تجلّى إعجابه بها في مناجاته الخالق، على طريقة الصوفيين، في ابتهالات بلغت الأربعين، يشكّل كل واحد منها عنوانا لفقرة أو فصل في الرواية، هذه الابتهالات حملت العناوين الرئيسية لتركيبته النفسية والقيمية والمعرفية، وتعمّقه في علوم الدين والشريعة، التي أجبره والده على دراستها، واستطاع من خلال هذا التعمق أن يولّف الأحكام والتفسيرات بطريقة ذرائعية، يبرّر لنفسه قبل الغير انحراف بعض سلوكه، أو يبرّر للحكام وأولي الأمر مواقفهم وقراراتهم وسياساتهم.
الشيخ الوحش لديه عدة عقد في الطفولة والمراهقة، حكمت مسيرته الحياتية، وهنا يظهر تمكّن المؤلف من رسم الشخصية، أولها القسوة والعنف في التربية من قبل والده، ومن قبل شيخ الكتّاب، وثانيهما شعوره بالدونية من ابن الأعيان “الشحات” الذي صار يعدّه عدّوه الأكبر، خاصة بعدما تزوج “ست الدار” الفتاة التي أحبها في مراهقته فحرّضت أحلامه الذكورية وفتّحت نفسه على الشهوة وجسد المرأة، لكنها لم تمنحه أكثر من قبلة وملامسة أصابع. ثم زواجه المفروض عليه من قبل والده، من فتاة لم يحبها ولم تكن ترضي اشتهاءه الجسد الأنثوي “هذا ما جناه أبي عليّ ليكون من حقي أن أجني على الجميع”. عرف باكرا “أن للعِمّة والجبّة مع القفطان تأثيرا مذهلا على المصريين”، وراح يحلم أن “يصبح أكبر من عزيز مصر”.
ابتهل إلى الله كي لا يؤاخذه على شغفه بملذات الحياة، وعندما صفعه والده على تعاطيه الحشيش تعلّم الدرس الأول: “المتعة موضوع شخصي أمارسه سرّا من وراء حجاب”، وتتتابع الابتهالات، لتشكّل ما يعدّ عتبات أساسية في بناء الشخصية وإظهار ميولها وانحرافاتها وجشعها ونزوعها نحو السيطرة والسلطة، وحبّها المال والنساء وملذات الدنيا، والأهم من هذا الذرائعية العاتية التي يفسّر بها الأمور ويطلق الأحكام الشرعية والفتاوى للناس الذين ينتظرون حكم الشرع في قضاياهم. لترتسم أمامنا شخصية نرجسية مصابة بجنون العظمة والشهرة “اللهم … اجعلني مشهورا مثل سعد زغلول ومنيرة المهدية”. أعجبته لعبة السياسة، لكنه عرف عند أول صفعة أن عين العبيد لا يمكن أن تعلو على حاجب السادة في “قصر عابدين” أو مكتب المندوب “السامي البريطاني”.
يكبر الشيخ مشهور بالتدريج، يشهد حقبا خلال مسيرته، التي ابتدأت من المعهد الديني حيث راح طموحه يكبر “سأتحول من رئيس اتحاد الطلبة في المعهد الديني إلى العقل المدبر لثورة الأزاهرة”. تنقّل فيها بين مبعوث الأزهر إلى إحدى الدول العربية الخليجية: “غريب في بلاد غريبة تعوم على بحيرة من الرمال والعبوس والدولارات”، وهناك اتخذ قراره التاريخي بالانسلاخ من الماضي: “لن أتشابه مع مشايخ الأزهر، سأضرب عصفورين بحجر، أعانق التميز، وأزايد على مشايخ التجهم في البلد المضيف: أنا منكم وإليكم، خلفيتي الأزهرية مجرد صدفة جغرافية”، إلى مبعوث من تلك الدولة مشفوعا بالدنانير الذهبية، عن طريق عميد الكليّة، قال له إنهم يخططون لفتح بلاد الفرنجة، أن يجعلوا من القرآن “ربيع قلوب العلماء”. فأرسلوه في “بعثة عظيمة أحدّثُ أهل أوروبا وأميركا الشمالية عن عظمة الإسلام وأدعوهم إلى الدخول فيه”.
عندما صفعه والده على تعاطيه الحشيش تعلّم الدرس الأول: “المتعة موضوع شخصي أمارسه سرّا من وراء حجاب”
ثم يعود إلى مصر ومنها إلى دولة إفريقية تحرّرت حديثا من الاستعمار الفرنسي، لا ينقص القارئ النبيه أن يعرف أنها الجزائر، ويعود ليذهب في بعثات عديدة إلى “الدول الكافرة” من باريس وكندا وإسبانيا وأميركا وغيرها.
في الابتهال الثامن يدعو الله “اللهم أعنّي على رجل عظيم اللحية يسكن الشيطان عينيه. أضلّ كثيرا من عبادك فأشرقت عقولهم بنور التفكير العقلاني المادي”، وهذا الضالّ بالنسبة إليه هو رجل علماني يدعى مأمون يتزعم فريق “العلم”، يلتقي في مناظرة مع إمام القرية “أبو المحاسن” الذي يرى “أننا لا نستحق رحمة ربنا لأننا نعيش الجاهلية الأولى”، يستند إلى عضويته في جماعة “غامضة” تدعو إلى مكارم الأخلاق بينما “يتولى الإنكليز تمويلها سرّا”.
ثم يتلقفه “الأشقر الغامض” عندما تكبر عائلته وتبدأ ضائقته المادية، بإرسال مساعدات مالية إليه، يقول له: “لا يهمّنا سلسال الدم في قريتكم، تهمّنا فقط العائلات القبطية والكنيسة”. يقدّمه للناس في الموالد باسم “الشيخ يعقوب الإفرنجي”. يخبره الأشقر “إن عدونا واحد، الشيوعية والاشتراكية. الخطر الأحمر الذي يهدّد كلّا من العالم الحرّ والإسلام معا”. يلخّص المؤلف بهذه العبارات تاريخ الجماعات الإسلامية التي رعتها القوى الغربية (بريطانيا ثم أميركا) في أكثر من منطقة في العالم تعدّ أفغانستان أكثر شواهدها حضورا في الوعي.
تبدأ المعركة الخفية بين العهد الجديد (الناصري) الذي جاء بالنظريات الاشتراكية وفتح الأبواب على الاتحاد السوفييتي “الملحد”، والجماعة التي يمثلها الشيخ “الوحش” التي تتطلّع إلى أسلمة الدولة والمجتمع، بالتوازي مع الخلافات والانقسامات في مؤسسة الأزهر.يطلب منه أعضاء البعثة الأزهرية صياغة التأييد للزعيم “الخالد في كل قلب” بعد تأميم قناة السويس. في خطابه عبر الراديو هتف “الصعيدي العنيد” باسم الأمة بدلا من اسم الله. يهتف الأشقر الغامض “كولونيل ناصر عدونا المشترك، لن نسمح بهتلر جديد على ضفاف النيل”. لكن “أبو الحسنين” رئيس البعثة الأزهرية يهمس في أذنه: لا أراك متحمّسا للريّس، ألا تحبّه؟ فيفكر في نفسه بأن الاحتياط واجب بعد ان انطلقت عصافير التجسس لتفتتح العهد الجمهوري الجديد، والهجوم على مصر أصبح وشيكا. الغرب الكافر بمواجهة الاشتراكية الكافرة بقيادة الضابط قليل الخبرة، ومأمون أفندي عاد لغيّه بعد أن سقطت الملكية وأصبح فاروق الأول هو فاروق الأخير. بينما الشيخ أبو المحاسن يرى أن المشكلة ليست في قلّة التسلّح إنما في قلّة الإيمان.ويظهر في هذه المرحلةالمسؤول الأشقر الجديد، سفير الدولة وارثة الإمبراطورية البريطانية. وإذ تأتيه التعليمات من تلك الجهات بوجوب التصعيد، واستثمار الحدث سياسيا في رسالة تقول إن “القادة الجدد في القاهرة يهمّشون المرجعية الأولى للسنة في العالم الإسلامي مجاملة لأصدقائهم في موسكو”،يطلب منه أحد أعضاء قيادة الثورة تأييد القرار الذي يجعل من الأزهر تابعا للأوقاف.
استطاع محمد بركة أن يصنع بأسلوب رشيق ولغة بسيطة مقتصدة بانوراما لتاريخ مصر منذ عهد الملكية إلى ما قبل انتفاضة يناير
أما موقفه من الحرب، عندما دمّرت إسرائيل عشرات الطائرات السوفييتية وهي على أرض المطار، في إشارة إلى حرب 1967، فبرّر سعادته: “لو كنا انتصرنا ونحن في أحضان الشيوعية لأصابتنا الفتنة في ديننا”. وعندما مات عبد الناصر، تغيّر شيخ الأزهر، وكان لا بدّ من التقرب من الرئاسة الجديدة، قبل المقابلة مع الريّس الجديد “الرئيس المؤمن”، أو رجل “الحرب والسلام” كما يصفه، يطلق ابتهاله الرابع والعشرون، بأن يجعله “كاهنا يهمس في أذن فرعون بالخير”. وإذ يطلب منه الرئيس الموعظة يقول: “أن تفرج عن فتية مكفهرّي الوجوه آمنوا بربّهم والسيف، تخرجهم من محبسهم وتطلق يدهم في الجامعات واتحادات الطلبة فيوقفوا كل من ارتدى قميص عبد الناصر عند حدّه. الغدر سيكتب نهايتك لكن المجد سيعلّق في رقبتك إلى يوم الدين”، وهذه عتبة تأسيسية بالنسبة إلى المجتمع المصري وتحولاته اللاحقة، والمدّ الديني الذي طاول الجامعات والأوساط الثقافية، والصحف والإذاعة والمجال الاقتصادي وغيرها ممّا يغتني السرد بالإشارة إليه، وعندما تقرّر تعليق عضوية مصر في الجامعة العربية اقترح عليه الانضمام إلى جامعة الدول الإسلامية بدلا منها. وكان للشيخ “مشهور الوحش” الدور الذي مارسه بذرائعية وإتقان، إذ عرف كيف ينتزع ثقة النظام ويخدم داعميه في الوقت نفسه، فهو يشخّص المشكلة بحنكة ويعمل بموجب هذا التشخيص “لا تتمثل خطورة الشيوعية في إنكار وجود الخالق، وإنما في تحريض الفقراء على الأغنياء، والوسوسة في أذن الحفاة العراة ليثوروا على أسيادهم القابعين خلف أسوار القصور”.
تمضي الأمور إلى أن ينتهي في عاصمة الضباب لندن، بعد أن أتخم مالا وجاها وسطوة، وأشبع غرائزه وانغمس في ملذات الجسد بلا رقيب أو رادع، فلقد كان يشتهي أرملة أبيه عفيفة، وأمّا “ست الدار” التي رجع إليها بعد مسيرة من غرقها في مستنقع الجسد المأجور، وزواجها من قوّادها، وإقامة مشارعها من إرثه بعد وفاته، وأهمها الكازينو أو “الكاباريه”، فإنها تتوب على يديه وتتفرغ للمشاريع الخيرية، بينما هو ينتقم من غريمه القديم “الشحات” ويمعن في إذلاله، وفي النهاية يقبع في قصره، داعية دينية وإماما له سطوته ورهبته في نفوس العامة والخاصّة، يستمتع بشباب “فريدة” ابنة “ست الدار”، مبرّرا مثل العادة أن “يجوز للخاصة ما لا يجوز للعامّة”، يعمل في منح البركة لرجال الأعمال القادمين بقوة لإقامة “البزنس المقدّس” من بنوك وشركات إسلامية، إنما يكون قد لخّص تلك الحقب التي مرت بها مصر: “ناصر تحالف مع السوفييت ليضمن القوة العسكرية، والرئيس “المؤمن” تحالف مع الأمريكان ليضمن الرخاء الاقتصادي. أما هذا الرجل الباهت فسوف يتحالف مع عفاريت المناطق الخربة، ليضمن التصاقه بالكرسي أطول فترة ممكنة”. وتنتهي الرواية بالخبر الذي يقرأه في الجرائد: “تعيين الحسن أمينا عامّا لمجمع الدراسات الإسلامية، ليس له مؤلفات أو بحوث، كل مؤهلاته انه نجل الشيخ الوحش”. فيترك المؤلف المستقبل مفتوحا على احتمالات، ربما أكثر بؤسا بالنسبة إلى المجال العام.
عبر رسم هذه الشخصية القوية المؤثرة التي بناها المؤلف من الداخل والخارج، على مستوى التركيبة النفسية والثقافية والاجتماعية والدينية، استطاع محمد بركة أن يصنع بأسلوب رشيق ولغة بسيطة مقتصدة، وتعبيرات محكمة، لا تخلو من الطرافة والفكاهة أحيانا، بانوراما لتاريخ مصر منذ عهد الملكية إلى ما قبل انتفاضة يناير، مضيئا على تركيبة المجتمع، والثقافة الشعبية، والأماكن، وأحوال الناس البسطاء، ودور الدين في نظم حياتها، قبل سطوة “الوحش” وخلالها، وبهذا يمكن القول إنّ هذه الشخصية الروائية التي كانت شاهدة على العصر ومشاركة في صنعه، ستبقى لفترة طويلة في ذاكرة القراء.